لعقود من الزمان كانت الكينزية (مذهب كينز في الاقتصاد) مرتبطة بالسياسات الحكومية الديمقراطية الاجتماعية الضخمة. ولكن علاقة جون ماينارد كينز بالديمقراطية الاجتماعية معقدة. فرغم كونه المهندس الذي صمم المكونات الرئيسية للسياسات الديمقراطية الاجتماعية وخاصة تأكيدها على التشغيل الكامل للعمالة إلا أنه لم يتفق مع الديمقراطيين الاجتماعيين في سعيهم إلى تحقيق أهداف أخرى، مثل الملكية العامة أو التوسع الهائل في دولة الرفاهية الاجتماعية. وفي كتابه «النظرية العامة لتشغيل العمالة، والأجور، والفوائد» ينتهي كينز إلى تلخيص مواطن القوة ونقاط الضعف في النظام الرأسمالي. فمن ناحية، توفر الرأسمالية أفضل السبل لحماية الحرية الفردية، والاختيار، والمبادرة في عالم المال والأعمال. ولكن من ناحية أخرى، تفشل الأسواق غير الخاضعة للتنظيم في تحقيق هدفين مركزيين لابد وأن يسعى أي مجتمع متحضر إلى تحقيقهما: «إن العيوب البارزة في المجتمع الاقتصادي الذي نعيش فيه تتلخص في فشله في ضمان التشغيل الكامل للعمالة وتوزيعه الاعتباطي غير العادل للثروة والدخول». وكان هذا يعني تكليف الحكومة بدور نشط، ولكنه دور متلازم مع فروع مهمة من الفكر اليساري. قبل نشر كتاب «النظرية العامة» في عام 1936، كان الديمقراطيون الاجتماعيون يجهلون كيفية التعامل مع هدف التشغيل الكامل للعمالة. وكانت سياساتهم موجهة نحو حرمان الرأسماليين من ملكية وسائل الإنتاج. ولكن لم ينجح أحد قط في استنباط الكيفية التي كان ليؤدي بها ذلك إلى التشغيل الكامل للعمالة. ولقد نشأت فكرة مستمدة في الأصل من ريكاردو وماركس، مفادها أن طبقة الرأسماليين كانت في احتياج إلى «جيش احتياطي من العاطلين عن العمل» من أجل الحفاظ على حصتها في الأرباح. وباستبعاد الأرباح من المعادلة تتلاشى الحاجة إلى هذا الجيش الاحتياطي، ويكون مقابل العمل مساوياً لقيمته، ويصبح بوسع كل راغب في العمل الحصول على وظيفة. ولكن بعيداً عن الاستحالة السياسية لتأميم الاقتصاد بالكامل سلمياً، فإن هذا التوجه كان يعاني من خلل قاتل: ألا وهو تجاهل الدور الذي يلعبه الطلب الكلي. فهو يفترض أن الطلب سوف يظل كافياً على الدوام إذا أزيل عنصر الأرباح. ولقد أظهر كينز أن السبب الرئيسي وراء نوبات البطالة الشديدة والطويلة لم يكن راجعاً إلى تعدي العمال على الأرباح، بل إلى التوقعات المتقلبة للاستثمار الخاص في عالم يسوده عدم اليقين. والواقع أن كل نوبات البطالة في دورات الانحدار كانت راجعة إلى فشل الطلب على الاستثمار. وعلى هذا فإن الأمر المهم لم يكن تأميم المخزون من رأس المال، بل كان تعميم الاستثمار. فالصناعة من الممكن أن تُترَك بأمان بين يدي القطاع الخاص، شريطة أن تضمن الدولة القدر الكافي من طاقة الإنفاق في الاقتصاد من أجل الحفاظ على مستوى التشغيل الكامل للعمالة اللازم للاستثمار. ومن الممكن أن يتحقق هذا من خلال السياسة النقدية والمالية: فرض أسعار فائدة منخفضة وتنفيذ برامج استثمارية حكومية ضخمة. باختصار كان كينز يسعى إلى تحقيق أهداف ديمقراطية اجتماعية رئيسية من دون تغيير ملكية الصناعة. ولكنه تصور رغم ذلك أن إعادة التوزيع من شأنها أن تساعد في ضمان التشغيل الكامل للعمالة. فتعزيز الميل إلى الاستهلاك «سوف تخدم في ذات الوقت كوسيلة لزيادة الحافز للاستثمار». أما أسعار الفائدة المنخفضة المطلوبة لتأمين التشغيل الكامل للعمالة فمن شأنها أن تؤدي بمرور الوقت إلى «الموت الرحيم لهؤلاء الذين يعيشون على إيرادات رأس المال». وكانت مسألة إعادة التوزيع باعتدال بمثابة المغزى الضمني الأكثر تطرفاً على المستوى السياسي لنظرية كينز الاقتصادية، ولكن التدابير المبينة أعلاه كانت أيضاً بمثابة تعيين لحدود التدخل من جانب الدولة في نظره. فما دامت الدولة قادرة على «تحديد الكم الإجمالي من الموارد المخصصة لتعزيز الأدوات (بمعنى القاعدة الرأسمالية) والمكافأة الأساسية لهؤلاء الذين يمتلكون هذه الأدوات»، فلن نجد «حجة واضحة» للمزيد من المشاركة من جانب الدولة. وما كان العام ليصلح كبديل للخاص، بل إنه في واقع الأمر مكمل له. واليوم لا تزال الأفكار حول التشغيل الكامل للعمالة والمساواة كامنة في قلب الديمقراطية الاجتماعية. بيد أن الصراع السياسي لابد وأن يدور حول خطوط جديدة للمعركة. ففي حين كانت الجبهة مقسمة بين الحكومة وأصحاب أدوات الإنتاج - أرباب الصناعة وأصحاب العائدات - فإنها اليوم مقسمة بين الحكومات والتمويل. والواقع أن بعض التدابير، كتلك الجهود التي يبذلها البرلمان الأوروبي لتنظيم سوق المشتقات أو الحظر الذي فرضته الحكومة البريطانية على البيع على المكشوف في أعقاب الأزمة المالية أو المطالبة بوضع سقف للمكافآت التي يحصل عليها المصرفيون، تشكل كلها تعبيرات معاصرة عن الرغبة في الحد من قدرة المضاربة المالية على الإضرار بالاقتصاد. إن التركيز الجديد على ضرورة ترويض قوة المال يشكل إلى حد كبير إحدى عواقب العولمة. ذلك أن رأس المال يتحرك عبر الحدود بقدر أعظم من الحرية والسرعة مقارنة بالسلع أو البشر. ولكن رغم أن الشركات العالمية الضخمة تستخدم عادة التركيزات العالية من الموارد المالية لديها في ممارسة الضغوط طلباً للمزيد من إزالة القيود التنظيمية («وإلا سنرحل إلى مكان آخر»)، فقد تسببت الأزمة في تحويل الأحجام الضخمة لهذه الشركات إلى عائق. إن كون أي مؤسسة أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس يعني ببساطة أنها أضخم مما ينبغي. ولقد أدرك كينز أن «عدم استقرار الأسواق المالية وتقلقلها هو الذي يخلق جزءاً ليس بالضئيل من مشكلتنا المعاصرة المتمثلة في تأمين القدر الكافي من الاستثمار». والواقع أن هذه الحقيقة تبدو اليوم - بعد مرور أكثر من سبعين عاما - أكثر صدقاً مما كانت عليه في زمن كينز. فبدلاً من تأمين الاستثمار للقطاعات المنتجة من الاقتصاد، أصبحت صناعة التمويل بارعة في تأمين الاستثمار من أجل الاستثمار في حد ذاته. وهذا يدعو مرة أخرى إلى وجود سياسة حكومية نشطة. ولكن كما كان كينز ليخبرنا، فمن الأهمية بمكان أن يكون توسع المشاركة الحكومية مستنداً إلى الاطلاع على العوامل الاقتصادية السليمة وليس إلى التوجيه من قِبَل إيديولوجية سياسية، سواء كانت ديمقراطية اجتماعية أو غير ذلك. إن تدخل الدولة لابد وأن يعمل على سد الفجوات التي لا نستطيع أن نتوقع من القطاع الخاص أن ينجح في سدها بمفرده. ولقد أظهرت الأزمة الحالية بوضوح مطلق أن الأسواق الخاصة غير قادرة على تنظيم نفسها بنفسها؛ وعلى هذا فإن القيود التنظيمية المحلية تشكل المجال الرئيسي حيث تستطيع الحكومة أن تجد لنفسها دوراً تلعبه. وعلى نحو مماثل سنجد أن القضايا المتصلة بالتضارب الزمني تمنع الشركات الدولية الكبرى من تقسيم أسواقها إلى أجزاء مستقلة. وهذا يعني أن إعادة إقامة الحواجز في وجه تدفقات رؤوس الأموال في هيئة ضرائب دولية، وبالتالي احتواء الأزمات قبل أن تتحول إلى أزمات عالمية، تشكل مهمة أخرى من مهام الحكومة. ومع ذلك فإن المساهمة الرئيسية التي قدمها كينز للديمقراطية الاجتماعية لا تكمن في تفاصيل السياسة بقدر ما تكمن في إصراره على أن الدولة بوصفها الحامي المطلق للمصلحة العامة لابد وأن تؤدي واجب تكميل وتنظيم قوى السوق. وإذا كنا في احتياج إلى الأسواق لمنع الدولة من التصرف بشكل سيئ، فنحن بلا أدنى شك في احتياج إلى الدولة لمنع الأسواق من التصرف بشكل سيئ. وفي أيامنا هذه فإن ذلك يعني منع الأسواق المالية من التصرف على نحو سيئ. وهذا يعني بدوره ضرورة الحد من قوة هذه الأسواق وتحجيم أرباحها.
خاص بـ(الجزيرة )* روبرت سكيدلسكي / عضو مجلس اللوردات البريطاني - لندن