الإسلام دين العزة والكرامة، ودين السمو والارتفاع، ودين الجد والاجتهاد فليس دين ذلّة ومسكنة، ولا دين كسل وخمول ودعة.
ولذلك فالإسلام يحض على علو الهمة، ويحث المسلمين على التحلي بهذا الخلق، ويوجههم إلى طرق اكتسابه، ويحرص على تربيتهم عليه، ويبيِّن لهم جميع الطرق الموصلة إليه.
ومن تربية الإسلام للمسلمين على هذا الخلق - أن وجههم لكسب الرزق المباح عن طريق الكدح والعمل والمشي في مناكب الأرض؛ حتى يعف الإنسان نفسه ويستغني عن غيره.
كما وجههم في المقابل إلى أن يترفّعوا عن مسألة الناس ونفَّرهُم من ذلك الخلق الذميم ما لم تدع الضرورة إلى ذلك وعلَّمَهُم أن اليدَ العليا خيرٌ من اليدِ السفلى؛ فمنع القادر على الكسب من بسط كفه؛ للاستجداء إذا كان في استجدائه إراقة لماء وجهه بين يدي من تكون يده هي العليا.
بل إن من أحكام الشريعة إباحةَ التيمم للمكلف، وعدم إلزامه بقبول هبة الماء للوضوء؛ لما في ذلك من المنّة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة. بل ومنها عدم إلزامه باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة. وأبيح له أن يصلي عارياً؛ صيانةً لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.
ومن الأحكام القائمة على رعاية هذا الخلق أن التبرعات لا تتقرر إلا بقبول المتبرع له؛ فلو وهب شخص لآخر مالاً لم تنعقد الهبة إلا أن يقبلها الموهوب له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منَّتها والمنّة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذوو المروءات إلا حال الضرورة، ولا سيما منّة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
يقول البارودي:
خُلِقْتُ عيوفاً لا أرى لابن حرة
عليَّ يداً أغضي لها حين يغضب
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يأخذ أحدكم أحبلاً فيأخذ حزمة من حطب، فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أو منع» رواه البخاري ومسلم.
وقال: «ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» رواه البخاري ومسلم.
وقال: «من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد خيراً وأوسع من الصبر» رواه البخاري ومسلم.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقلَّ أو يستكثر» رواه مسلم.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي - رضي الله عنه - قال: «تحمَّلت حَمَالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها».
قال: ثم قال: «يا قبيصة إنّ المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش «أو قال سِداداً من عيش»، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش «أو قال: سداداً من عيش». فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سُحتاً» رواه مسلم.
بل لقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً.
ففي الصحيحين عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه لما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع طائفة من أصحابه أَسَرَّ إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة خفية: «ألا تسألوا الناس شيئاً» فكان أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه.
ومع أن الإسلام يدعو إلى العزة، والكفاف، والاستغناء عما في أيدي الناس فإنه - في الوقت نفسه - دين التكافل؛ فهو يأمر أهله بالتعاون على مرافق الحياة، ويندبهم إلى معالي الأمور، وعلى رأسها: الإحسان بكافة صوره.
هذا وإن هناك آفةً تعتري فئاماً من الناس من ذوي الحاجات، وطالبي العطاء؛ فترى الواحد منهم يأتي إلى من يظن أنه سيجد عنده بغيته من مال، أو جاه، أو شفاعة.
وطالب الحاجة أعمى - كما يقولون - فإذا أتى إلى من يطلب منه شيئاً من ذلك لم يكن في مخيلته إلا قضاءُ حاجته.
ولا ريب أن من أوتي فضلاً من مال، أو جاه، أو نحو ذلك ينبغي له أن يؤثر المحتاجين بجانب مما أوتي، وألا يبخل عليهم بما هو في مقدوره.
ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويُذمَم
ولكن ليس في وسع الإنسان أن يشمل الناس، وأن يقضي حاجة كل من أتاه؛ لأنّ حاجات الناس كثيرة متنوّعة، خصوصاً في هذه الأزمنة المتأخرة و ?لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا?.
وقد يحتاج بعضها إلى مزيد تثبت؛ لأنّ حيل الناس كثرت، ويحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور - كما يقول عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -وبناءً على ذلك فإنه يحسن بمن يطلب حاجة من أحد ألا يُفْرِطَ في التفاؤل في إدراك بغيته؛ بحيث يصاب بخيبة أمل، وكسوف بال إذا لم يدركها.
بل عليه أن يوطن نفسه على كل احتمال؛ فإن أدرك ما يريد حمد الله، وإن كانت الأخرى تعزى بقدر الله، وأمسك لسانه عن لوم صاحبه، والوقيعة فيه؛ لأنه لم يظلمه، ولم يمنعه شيئاً يستحقه، ولم يقصر في واجب أوجبه الله عليه؛ فما على المحسنين من سبيل. ويتأكد ذلك إذا بذل المحسن وسعه، ثم لم تأت الأمور على ما يريد، أو كان التقصير من قبل طالب الحاجة من ناحية قلة المتابعة؛ لأنّ من الناس من يريد من الوجيه أو المحسن أن يشفع له، ويتابع الشفاعة بنفسه، وفي ذلك حرج.
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يحسن بطالب الحاجة ألا يكلف المحسنين فوق ما يطيقون، وألاّ يطالبهم بما ليس في وسعهم، وألا يَكْبُرَ في نفسه إذا اعتذروا منه، أو لم يستطيعوا تلبية رغبته.
وإذا أبى إلا خلاف ذلك فاللوم عليه؛ لأنه هو من أوقع نفسه في الحرج.
لا تغضبنَّ على امرئ
لك مانعٌ ما في يديه
واغضب على الطمَع الذي اس
تدعاك تطلب ما لديه
وأعجب من ذلك أن تسعى في حل قضية ما، وتتابع مجرياتها لحظة بلحظة، وترى أنّ صاحب القضية، وطالب الحاجة يوافيك بكل جديد، ويكثر من إيراد الاحتمالات عليك، فإذا وصل الأمر منتهاه، واستحكمت عُقدة القضية، وانطمست معالمها بالنسبة إليك، وبدأت تنتظر لحظات الحسم والحل - وكأنك صاحب القضية - تفاجأ بأنّ صاحبك قد قطعك، بل قد لا يرد على اتصالاتك، فإذا لقيته بعد ذلك، وسألته أجابك بأنّ الموضوع قد انتهى على خير ما يرام، فتقول له: لِمَ، لَمْ تخبرني، فيقول: لم أرد إزعاجك، يكفي ما قمت به سابقاً؛ فتقول: بل أنا أعيش في قلق، واضطراب، وانتظار لما يؤول إليه الأمر، فلو أخبرتني ليطمئن قلبي، فيقول: هكذا الأمر، عندها لا تملك إلا السكوت، وتَذَكُّرَ قول القائل:
أحمامةَ الوادي بشرقيِّ الغضا
إن كنتِ مسعفةَ الكئيب فَرَجِّعي
إنِّا تَقَاسَمْنَا الغَضَا فَغُصُونُه
في راحتيك وجَمْرُهُ في أضلعي
* جامعة القصيم