حين يفتئتُ على التأريخ طائفي فهو لا يتجاوز دورَه الذي تعلمه ويُعلمه مكملاً سلسلة التشويه التي مرت - عبر القرون - بأوصياءَ ظلوا أوفياء لمشروعات الأدلجة والدجل، ويكفي أن يُغتال التاريخ العربي «الأموي» لحاجة في نفس «اليعقوبي» ونظرائه، ويصبح اسمُ «معاوية» مقترنا بسوءاتنا، ولو كان رجلاً في غير أمتنا لصارت أيامه ذاكرةً تتلى فيها المزامير.
- لن نحترب حول التأريخ؛ فالله سيتولى الحساب، ولن تحرفنا أخطاءٌ هنا أو هناك عن إنزال العظماء أماكنهم، كما لا يضير وسمُ فترات حكم أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية «بالأيام» و»علي والحسن» «بالخلافة» - مثلما صنع اليعقوبي، وهو مؤرخ كبير لولا مذهبيته؛ فرضوان الله على الجميع، والأمة لن تدين للشعوبيين والفئويين مهما علت راياتهم وآياتهم.
- نحن أبناء اليوم، وتاريخنا المعاصر تكتبه الشفاهية «الموثقة والملفقة»، ورغم وجود محاولات جادة للتوثيق إلا أنها لم تبلغ بعد مرحلة المأسسة؛ فيكشف مستترها وفقًا للأنظمة العالمية المعتمدة؛ ما يجعل بإمكان مَنْ شاء كتابة تأريخ المرحلة وفقًا لأهوائه ومصالحه، وحين يمضي الزمن ستكون هي الشاهدَ، والحقُ هو الشهيد.
- ولأن «الرواية» هي ديوان العرب الحديث - كما يدعون؛ إذ لا ديوان لهم اليوم بل ديون وأدواء، فقد باتت مفتتح الحكاية الاجتماعية التي سامها كل مفلس؛ فبتنا على موعد يومي مع إصدارات جديدة مملوءة بالتجاوز والتجني تحت مسميات السيرة الروائية أو الرواية السيرية، وأثرى المؤلف والناشر والبائع، وغابت وزارات التجارة عنها؛ فلا شأن لها بالثقافة كما وعيناها ونعيها.
- عامل يَقْدم إلى الوطن ليغسل السيارات يصبح - في سنين قليلة - روائيًّا يحكي عن شذوذه، ويستقبله ناشر قميءٌ يختار من التراث رديئَه، ومن المخطوط كاذبه، ومن القصص فاحشها، ويتصدر معارض الكتب ليثري بالزور والفجور ولو انتمى باسمه للمعالي ونسب داره للصحراء.
- صارت الرواية الطريق الأيسر للشهرة والثراء، وبات كشف السُتُر مبتدأها وهجيراها، ومن لم يفكر بزاوية في صفحة القراء أصبح من ذوي الأسماء والتآليف، ويوما ستكون الفضائح هي السيرة العلنية التي ستؤرخ بها حياتنا الاجتماعية ممهورةً بالخمر والميسر وكهوف الليل والنهار.
- ثمة دور غائب في مجتمع «موجه مغلق» لتخطي هذا الإشكال؛ بما يعنيه من رفع «السرية» عن التأريخ كل ثلاثين عامًا أو أقل، ونشر الكتب المصادرة التي ربما جاز حجبها في مرحلة التأسيس منعًا للتجاذبات والاستقطابات، ووضع قوانين تكفل محاكمة الروايات التي تتحدث عن شخوص أو أماكن بعينها بما يقترب من مفاهيم السيرة.
- الإغلاق والاندلاق مرضان عانينا ونعاني منهما، وناتجهما غياب الحضور الموضوعي للأحداث الحقيقية وبناء أهرامات من الزيف والخيال، ومات اليعقوبي - عفا الله عنه - في القرن الثالث الهجري (292 هـ) وما يزال تأريخه أحد أهم مصادرنا التي صادرت جزءًا حيويًّا من حقبة مضيئة في تاريخ بني أمية العربي الذي ما نزال نتساءل فيه - مع نزار - عن عيني معاوية ومن زاحموا بالمنكب الشهب.
- نحن تاريخنا؛ نحكيه كما هو أو سيكتبه سائق وخادمة ومأجور وتاجر وسائح وتائه ومأزوم ومتعصب، وقد برأ الله سيدتنا عائشة رضي الله عنها فمن يبرئنا من زيف وحيف؟
- قد يكذب التاريخ.