من المهم، بل من المحتم، أن تصدر الجهات المعنية بالشأن العام والمؤتمنة عليه في بلادنا من الأنظمة والتشريعات ما يحقق حياة أفضل، ومردوداً إيجابياً للصالح العام، ويفترض فيمن يسن هذه التشريعات أو يصدر بعض الأنظمة أن يدرس بعناية وضع آلية تطبيقها وسبل التنفيذ الدقيق بما في ذلك محاسبة ومعاقبة من لا يلتزم بتنفيذ ما يُطلب منه؛ وذلك كي يتحقق الهدف المنشود من تلك التشريعات، لكن المفترض والمرجو شيء، والواقع المعاش - مع الأسف - شيء آخر؛ فكثير من الأنظمة والتوجيهات التي أصدرتها جهات لها من السلطة - إن أرادت - ما يؤكد قدرتها على التطبيق الحازم أصبح مجرد حبر على ورق، وقوبل بالتجاهل إن لم يكن بالاستهتار من قِبل المناط بهم التنفيذ، سواء مؤسسات أو أفرادًا؛ ما يؤكد بجلاء أن ثمة خللاً لا بد من تداركه؛ حتى لا تفقد تلك الجهات المشرعة احترامها ومصداقيتها. هناك أمثلة عديدة لتعليمات وأوامر صدرت وأُعلنت في وسائل الإعلام المختلفة، ولكنها لم تُطبَّق، وأكتفي هنا بإيراد مثالين:
الأول: منع التدخين في مطارات المملكة عامة، ووضع عقوبات لمن لم يلتزم، ومع هذا ما زلنا نرى الكثيرين ممن استمرؤوا التدخين في تلك المطارات، وبعضهم من العاملين - مع الأسف - بتلك المطارات ويفترض فيهم أن يكونوا قدوة في الالتزام والتطبيق. أثناء وجودي بمطار الملك خالد منذ وقت قريب في طريقي في رحلة خارج المملكة شاهدتُ أحد المسافرين من جنسية أوروبية ينفث دخان سيجارته أمام لوحة (ممنوع التدخين)، وليقيني بحصر أمثاله على الالتزام بالأنظمة واحترام القوانين بادرته بسؤالي:
لِمَ تتجاهل تعليمات منع التدخين أمامك؟ فأبدى أسفه بارتباك واضح. وتابعتُ سؤالي: هل تجرؤ على التدخين في أحد مطارات بلدك؟ فأجاب بالنفي، مضيفاً: لقد أقدمت على التدخين هنا وبهذا المطار لأنني رأيت الكثير من المسافرين بل ومن أبناء البلد، وبعضهم من العاملين بالمطار كما يظهر من زيهم الرسمي، وهم يدخنون!
وجدتُ نفسي أتساءل: هل يجرؤ هؤلاء المستهترون على التدخين في مطار دبي مثلاً؟! قطعاً لا؛ لأن أحدهم لن يكمل إشعال سيجارته قبل أن يجد من يمسك به ويطبق بحقه النظام بحزم.
المثال الثاني لتلك التعليمات، التي يبدو أنها وُلِدت ميتة، هو ما يخص تنظيم استخدام مكبرات الصوت بالمساجد ووضع بعض الضوابط التي تحقق الاستخدام الأمثل لتلك المكبرات بطريقة لا تؤذي المجاورين لتلك المساجد ولا تُسبّب تشويشاً أو إرباكاً للمصلين في المساجد الأخرى، وقد أتحفنا المسؤولون في الجهة المصدرة لتلك التعليمات بتكرار الحديث عنها والتأكيد على وجوب تنفيذها بما يوحي بجدية التطبيق، ولكننا لاحظنا جميعاً أن الالتزام بتلك الضوابط كان معدماً، والشواهد ملموسة في أكثر المساجد التي ترتفع مكبرات الصوت بها مصحوبة بما يسمى (الصدى)! وأتساءل هنا: لِمَ يقف الإخوة أئمة تلك المساجد هذا الموقف السلبي وغير المبالي من أمر صادر من مرجعهم، وطاعة ولي الأمر واجبة كما نعلم جميعاً؟! ولِمَ تجاهلوا فتوى صادرة بهذا الصدد من عالم جليل هو المرحوم الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - كما أشار إلى ذلك شقيقه الفاضل الدكتور عبدالله العثيمين في مقاله المنشور بعدد الجزيرة رقم 13850 الصادر بتاريخ 20-9-1431هـ؟
في مدينة أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات تم توحيد الأذان في جميع مساجد المدينة، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في وجه هذا التنظيم، وفي مصر تم توحيد الأذان في معظم مساجد القاهرة، وتم ذلك بنجاح، أما عندنا فمجرد تنظيم يهدف إلى الحد من المبالغة في الاستخدام لهذه المكبرات وبما يتفق مع ما يراه علماؤنا الأفاضل نعلم جميعاً ما آل إليه ذلك.
أخلص إلى القول: إذا كنا جادين في تنظيم حياتنا وخدمة مجتمعنا بما نصدر من أنظمة وقوانين فليكن هاجسنا الأول قبل إصدارها: ضمان تطبيقها، وإلا فلنوفر على أنفسنا عناء إصدارها حتى لا توأد في مهدها غير مأسوف عليها! أخشى أن نكون في أمسّ الحاجة إلى أكثر من طيب الذكر (ساهر)؛ كي نعتاد الانضباط واحترام القوانين المنظمة لحياتنا.