|
إن من يقرأ التاريخ ويفقه سننه ويستبطن أحوال الأمم يدرك جيداً أن ثراء الأمة - أي أمة من الناس - يحسب بقدر ثرائها بالقيم وبقدر ثرائها بالرموز الإنسانية التي تتمظهر فيها الكمالات البشرية فالأول - أي ثراؤها بالقيم - يدل على اكتنازها بالعلم والأخلاق.
والثاني - أي ثراؤها بالرموز الإنسانية - يدل على قدرتها على تحويل ما تعتقده إلى واقع تعايشه عبر أفذاذ من الكمالات الإنسانية تكون قدوات لأجيال الأمة، وهذا يدل مرة أخرى على أن الأمة أمة ولود تنبض حياة وحركة وتنهض قوة وبركة. فإذا أنزلنا هذا التقرير على أمة الإسلام وجدنا أنها أزخر الأمم قيماً عبر قيمتها الأولى والأهم قيمة التوحيد. ثم وجدناها أزخر الأمم رموزاً عبر رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم ثم أنبياء الله ورسه من لدن آدم وحتى خاتمهم فإنه لا يصبح إيمان مسلم حتى يؤمن بجميع الأنبياء والرسل ثم يلي تلك الرموز الكبرى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين هذا الجيل الطاهر الذي أقام حياة لم يعرف لها مثيل في التاريخ ونشر قيماً كريمة لم تسد من قبل بحسب الاستقراء.
ولا يخفى أن من أبرز رموز هذا الجيل زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأحب الناس إليه بعد أبيها ومن أكثرهم علماً وفقهاً وفهماً لأحوال الناس ومن أكثرهم خشية وتقى الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها. والحديث عن عائشة رضي الله عنها حديث لا يخضع للمناسبات، لأنها تمثل حياة تتكامل فيها الحياة المثلى التي ينبغي لكل أحد أن يتخذها قدوة ومناراً وهدى.
وليس في ذلك عجب: إذ إنها رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخذت عنه خلقه وهديه وروت حديثه وسنته واستلهمت شخصيته وشمائله وما ذاك إلا لما تحلت به بل فطرت عليه - على الحقيقة - من استعداد فطري مكين صبغها الله سبحانه به: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً} ثم ما تهيأ لها من تربية في مدرسة أبي بكر رضي الله عنه، وأبو بكر كان بحيث لا يخفى مكانه من العلم والعمل تلفهما حكمة تبصره مواقع الهدى وتنير له طريق الاستقامة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} بهذا البيت نشأت، وعلى أسسه قامت واستقامت، ومنه تخرجت إلى بيت آخر إلى بيت النبوة حيث محمد عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم جليسها وأنيسها وحيث آيات الله والحكمة سمعها وبصرها: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وحيث وفود القبائل وأصناف الناس ووجوه العرب يفدون ويقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده على خطوة من بيت النبوة فتسمع وترى منهم أحاديثهم ومراجعاتهم وتجاربهم ما وسَّع من مداركها وأثرى من تجاربها، ولا غرو إذاً أن يقول مثل عطاء بن أبي رباح التابعي الجليل عن عائشة رضي الله عنها (كانت عائشة أفقه الناس وأحسن الناس رأياً في العامة) فالفقه هو العلم بفهم دقائقه وأسراره وكنوزه ومعارفه، وحسن الرأي هو الإدراك والبصيرة وحسن النظر في الأمور ونفاذ الرأي وحكمته عند النوازل والحوادث. لقد استوت عائشة رضي الله عنها على شخصية فذة تبوأت بها قلب النبي صلى الله عليه وسلم {ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ثم تبوأت بها مرجعية علمية بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يرجعون إليها في كثير من القضايا والمسائل.
إن حقاً على الأمة الإسلامية وهي في سبيل نهضتها وتقدمها أن ترتسم خطى رموزها الصالحين السابقين منهم واللاحقين أجل: ولقد ضاعت أمة لا رموز لها كما قال بعض الأدباء العارفين.
وإن عائشة رضي الله عنها على سبيل الخصوص حقيق بنا وحق علينا أن نستجلي آفاقها ونكشف مواطن ومواضع الاستهداء والاقتداء من أخلاقها النفسية منها والعقلية فإنها رضي الله عنها ثروة من كل شيء. ولئن كان ذلك مطلوباً من الجميع رجالاً ونساء فإنه يبدو أكثر طلباً من بنات ونساء المسلمين وسيجدن في شخصيتها رضي الله عنها كثيراً مما يفتقدنه في حياتهن وشؤونهن سيجدن فيها رضي الله عنها الصبر في التعلم والعزيمة عليه وطرق كل السبل المشروعة إليه سيجدن فيها رضي الله عنها شخصية موسوعية لم تكتف بفن من العلم حتى أضافت إليه فنا حى أضافت إليه فنوناً فقد كانت عالمة بالقرآن والحديث والشعر وأيام الناس والأنساب والطب. سيجدن فيها رضي الله عنها قوة الحجة وحسن الاستدلال والاعتداد بالرأي في غير باطل حتى خالفت جمهرة من الصحابة رضي الله عن الجميع في عدة مسائل جمع لها الزركشي مجموعاً سماه الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة. سيجدن فيها رضي الله عنها الطمأنينة بالإيمان وحسن الخلق في الإسلام والإحسان إلى الناس والرحمة بالإنسان بل والحيوان كما في بعض مواقفها. سيجدن فيها كثيراً وكثيراً مما ينشئ لنا جيلاً من النساء أحسن اعتداداً بأنفسهن وأقوى إيماناً في قلوبهن وأفصح لغة في ألسنتهن وحينئذ تكون المرأة كما يراد لها مدرسة للأجيال. وأنهى هذا المقال بهذه الشهادة التي شيع بها ترجمان القرآن وحبر أمة الإسلام عبد الله بن عباس روح عائشة رضي الله عنهم وهي في اللحظات الأخيرة من حياتها، شهادة قالها ابن عباس لإنسان يدنو إلى الموت والموت يدنو إليه، ماذا يريد بها رضي الله عنه إلا الله والدار الآخرة، شهادة قالها رضي الله عنه في محضر لا يزيد عن الثلاثة ولكن ما قيل لله يبقى ولا يفنى فحفظها التاريخ وستبقى للتاريخ ما بقي تاريخ. قال الراوي: جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن على عائشة، وهي في الموت قال: فجئت وعند رأسها عبد الله ابن أخيها عبد الرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن قالت: دعني من ابن عباس، لا حاجة لي به، ولا بتزكيته، فقال عبد الله: يا أمه، إن ابن عباس من صالحي بنيك، يودعك ويسلم عليك. قالت: فأذن له إن شئت. قال: فجاء ابن عباس، فلما قعد، قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب، وتلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة، إلا أن تفارق روحك جسدك. قالت: أيهاً، يا ابن عباس! قال: كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني إليه - ولم يكن يحب إلا طيباً، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجد من مساجد يذكر فيها الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار. قالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسياً منسياً.
الأمين العام لهيئة كبار العلماء