قرأنا في غضون الشهرين الماضيين عددا كثيرا من المقالات والبيانات التي باتت أشبه بمنازلة بين طرفين، فطرف يتهم وطرف يدافع، الأول يجادل حجة أن الهيئة العامة للاستثمار قد حادت عن سبيلها وأضرَّت أكثر مما نفعت بنشاطاتها، والآخر يجادل أن الهيئة أفلحت ونجحت حين أخفق غيرها ووضعت البلاد على خريطة المنافسة في جذب الاستثمار الخارجي، وبين الطرفين بون شاسع وقول شط بعضه عن المعتاد والمقبول، وكلاهما اعتد بما لديه من معرفة وعلم ومهارات في التعبير والتحليل، وعلى ما كان عليه وطيس ذلك النزال، لم يستطع المتابع المحايد أن يجد في حجة الأول ما يكتسب للجزم بتهمة الأضرار ولم يجد في دفاع الآخر ما يبرئ ساحة الهيئة من التهمة.
وأنا أتابع كالراصد ذاك الجدال الحديم، يقلقني ألا تستقر نفسي على بينة من حقيقة أؤسس عليها ميلي لأحد الطرفين ولا شك أن لي أمثالا من القراء الكرام، شأنهم شأني من الحيرة والعجب، كيف لا يحسم هذا النقاش بحقيقة كالشمس، ممن هو محايد ولديه العلم بحقائق الأمور؟! ولكن والأمر ثائر غباره وحتى نتبين حقيقة الأشكال وموطن النزال فلابد من تلخيص حجج القوم، ففريق التاهمين يدعي «أن صلاح الهيئة موضع ريبة، وهي تدعي بباطل، فتموه فشلها بجذب مستثمرين اجانب ذوي نفع بتشريع يحول المستترين لمستثمرين، فتمكنهم من استغلال نظام الاستقدام، ليحرموا المواطن حقه في فرصة العمل، ويستقدمون من لا يحتاجون لشأنهم فتبلى البلاد ببطالة من لا يقوى على منافستهم من أهل البلاد، والهيئة دؤوبة على استشراع ما يميز الأجنبي عن المواطن دون فائدة تذكر للبلاد، فهمُّها أن تعتد بالمؤشرات الدولية لاستجلاب الثناء والمديح، وهي مع ذلك تقحم البلاد في مغامرات استثمارية سمتها المدن الاقتصادية في حقيقتها لا تعدو أن تكون مشاريع عقارية. أما المنافحون عن الهيئة فقد شمروا وتنادوا ليوم تزال فيه الشبهات وتستبان المروءات فتساوى قولهم، «أن الهيئة العتيدة قد أنجزت ما وعدت وتفانى منسوبوها ومندوبوها في تسهيل الإجراءات وتحسين الخدمات وتذليل الصعوبات للمستثمرين الاجانب، ولاشك أنه من ذلك استفاد المستثمر المواطن، فتدفقت أموال من كل حدب وصوب كسيل غدق تجاوز المليارات من الدولارات وبات للمملكة شأن متقدم بين بلاد جذب الاستثمار والهيئة عندما كونت المدن الاقتصادية لم يكن لها هدف غير توسيع القاعدة الاقتصادية وتنمية مناطق كانت طاردة لأهلها من قلة الفرص فيها. والهيئة باشرت بفكرة جريئة بها حولت التستر المرهق لاستثمار مغدق. فما بال أقوام لا ترى ما نرى من منافع الهيئة الكريمة»، بين هذا وذاك تفرق الناس وبات معظم الملاحظين في حيرة، مع من يقفون فلا شك أن أظلم ما يجتريه الإنسان أن يخفق في الميل مع الحق، لذا أرفع الصوت عالياً، لمن لديه حقيقة القضية أن ينجز بالقول الصارم حتى تستقرالأذهان وتستفيد الأفهام، وينقطع الجدال. فلا طائل من جلبة الخلاف بمداد الظنون والهواجس.
بين ما قيل من قبل هذا وذاك، هناك عبارات جديرة بالتوقف عندها والاستفهام، فشهادة الأستاذ سليمان المنديل وهو عضو سابق في مجلس إدارة الهيئة، تحتاج من الهيئة بيانا صريحا حولها، وهي ايضا تستحث اعضاء في مجلس إدارة الهيئة المعاصرين للمنديل للتعبير عن موقفهم، فالسكوت لا يعبر عن موقف أكثر من كونه سلبية تجاه الحال، وما أدلى به زميلنا الدكتور حمزة السالم من بيانات تضمنت جلب استثمارات بنصف ترليون ريال للاقتصاد الوطني، فمن يفند هذا الرقم الضخم جداً، فنعرف كيف أتى وممن أتى، وفي الجانب الآخر تحدث كل من الكاتب عبدالعزيز السويد عن قصة منح الهيئة ترخيص استثمار لشخص لديه سوابق لها علاقة بالمخدرات، هذه القصة تدمي الضمائر الحريصة على أمن البلاد، فهل لنا بمن يحقق هذه القصة أو ينفيها، أما ما ورد في مقال للكاتب خلف الحربي فهو إشقاء للكادحين من المواطنين، والهيئة في بيان أو اثنين تتبرأ من تهمة الترخيص لاستثمار الورش والمطاعم وتتهم البلديات بتصنيف رخصها بمالا يناسب من تسمية، وهي أيضا تدعي براءتها من فتح الاستقدام لمن يسيئه من المستثمرين وتقول: إنها تشترط برخص الاستثمار تخصيص وظائف للسعوديين، فهل البلديات ووزارة العمل تحتمل هذا التحويل للتهم إن لم تكن حقيقة.
لا شك أن هذا الجدال بين الطرفين مطلوب شكلاً وموضوعاً، فالصحافة الحقة هي مرآة بها يتبين المجتمع الرسمي والشعبي مواطن الخلل وهي مطالبة بلعب ذلك الدور بكل شفافية ونقاء، لذا نفترض أن ما يقال فيها هو خالص لخدمة الوطن وأهله، وألا تكون الصحف منابر اعلان المواقف واكتساب المصالح، وحيث إن الجدال حول هيئة الاستثمار ودورها قد استدرج لأتونه وبصورة غير مسبوقة عددا كبيرا من الكتاب وبزخم غير معتاد فقد أشعل الظنون وصار لازم إطفائها بحقيقة الواقع، فلا فائدة ترجى من القول والقيل، فإما أن تكون الهيئة نافعة وتنصرف لإكمال دورها، أو غير ذلك فيقوم معوجها ويصحح مسارها.