|
شخّص الدكتور فهد العرابي الحارثي الواقع العربي عبر كتابه الجديد (المعرفة قوة والحرية أيضاً) الصادر عن الدار العربية للعلوم في بيروت.. وعرض في فصول الكتاب ما يعتقد أنها مسارات محتومة للمنافسة وما يعتقد أنها قضايا جديرة بالمناقشة ومن أبرزها أزمة الحريات وحقوق الإنسان.
وألقى الدكتور فهد الحارثي باللائمة على بعض المثقفين وقال: يلاحظ أن المثقفين العرب عوضاً عن تصحيح علاقتهم بالسلط المختلفة فهم ما يبرحون يعملون ليس فقط على تكريس العلاقة القمعية المرتابة وتنميتها بل إنهم لا يستنكفون عن الإفادة من منتجاتها فيصبح ما ينشأ بينهم من تحاقد أو تحاسد دافعاً إلى المبادرة من طرفهم إلى استفزاز السلط، بل استعدائها على بعضهم بعضا فليس غريباً في مثل هذه الحال أن يكون من ديدن هؤلاء المثقفين الوشاية ببعضهم وإذا كان من صفات الوشاية أن تكون سرية أحياناً فقد يأتي الاستعداء في أحايين أخرى بلا حياء، علنياً عبر المنابر، أو الكتب، أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة، فيحذر الناس وينذرون وتستدرج السلط للتدخل، وبالتالي يأخذ هذا التدخل أشكالاً مختلفة تنتهي كلها بشل حركة المثقف وإرباكه وتعطيله عن مهماته.
وعن تهافت محتوى التعليم العربي أكد الدكتور الحارثي أنه يعبِّر عن التفكير القائم على الترقيع ويتمثل هذا حسب أحد الباحثين في الصراع المستمر بين القديم والجديد من المفاهيم والاتجاهات والأنظمة وكل الثنائيات والازدواجيات المعروفة.
وقال: المناهج العربية يتجاذبها تياران: واحد ينحاز كلية للتراث والثقافة العربية التقليدية فهي العلم كله وفيها مفاتيح المجهول وبها الزاد المطلوب للحاضر وفيها ما يلزم من الاستعداد للمستقبل وهي الأنقى وهي الأتقى، وهي الحق وغيرها الباطل. ويحدث هذا على حساب حضارة العصر وثقافته ومستجداته بدعوى الحفاظ على الهوية العربية ثم يقدم بعد ذلك هذا التراث على نحو لا يستثير العقل فينزل منزلة المسلمات والحقائق التي ينبغي عدم الاقتراب منها بالتساؤل أو المناقشة أو التمحيص أو التدقيق.. ويعتمد على التلقين الذي يلغي العقل ويرسخ الإرهاب الفكري ويعزل المتعلم عن الإطار الكلي لواقعه ويعوق قدرته على المشاركة في التنمية فيعزل التراث هكذا عن الواقع المعاش فيغترب عن ذاته الماثلة ويقصى عن حضارته الراهنة وما تعج به من معارف وإنجازات.
أما التيار الآخر المناط به تجهيز (المحتوى) القائم على الترقيع فهو التيار المنكر لتراثه المسفه له فيرى فيه العبء الثقيل المنهك لمستقبله، المعطل لتقدمه وبالمقابل فهو يغالي في تقديس قيم الآخر الممسك اليوم بزمام القوة ومن ثم يخلص إلى أن أول شروط الفلاح التخلص من القديم أو القطيعة معه.
وتساءل: من أين لنا بمحتوى يحتكم إلى العقل وينأى عن العصبية والجهل والغرض.. محتوى متوازن يقدم للأجيال موروثاً نقياً محفزاً على الحلم والإبداع ويقدم لهم في الوقت ذاته منجزات عصرهم ليزدادوا بها قوة ومناعة ولتدفعهم إلى المستوى المؤمل من الشراكة والمنافسة فنحن ندين مختطفي الأجيال إلى خارج تاريخهم وتراثهم، ونحن ندين أيضاً العصبية العمياء لذلك التاريخ وذلك التراث.
إن علينا أن نجعل أجيالنا تحب تراثنا لا أن تخاف منه، أو ممن يدعون أنهم حراسه الأمناء، وعلينا أن نساعد تلك الأجيال على اعتناق قيمنا وليس أن نسقطها فوق رؤوسهم من الأعلى وبحد القوة فالحب الذي يبقى ويصمد ويستمر والإيمان عن قناعة هو الذي يستقر في الوجدان وفي الضمير وهو الذي يخامر الروح ويتوطد في النفس وهو الذي يمنح القوة والثبات.
وأشار د. فهد الحارثي إلى تحديات الثورة التقنية وقال: نحسب أن الفجوة ما تفتأ تزداد تفاقماً بين الثقافة العربية والأجيال الجديدة فقد استدرجت الأجيال الجديدة نحو فضاءات بدت أكثر رحابة وقد لعبت التكنولوجيا الجديدة والمعلوماتية دوراً بليغاً في ذلك الاستدراج فأخذنا نسمع بما يسمى ب(ديمقراطية المعرفة) وهي ما بشرت به العولمة في تجلياتها الكبرى فالجميع يرسلون ويستقبلون والجميع يتبادلون المعرفة وهو ما يعني سهولة الوصول إلى المعلومات وإتاحتها للجميع بدون وصاية من أحد.. أخذت بناء على ذلك تتلاشى فكرة سلطات الأولين على الآخرين أو بمعنى آخر ديكتاتورية المثقفين.
وتساءل المؤلف: كيف يمكن الخروج على شروط هذا العالم الجديد الذي يتشكل أمام عيوننا.
وقال: الأجدى هو أن نجاريه قبل أن يبتلعنا أو يدهسنا أو يركز أعلامه فوق زماننا.. ومجاراته تأتي بالأخذ بوسائله وباللعب بسيوفه فنكون شركاء له، نعرض بضاعتنا إلى جانب بضاعته ونصعد هامة المنابر التي يرتقيها فلا نتركه يستحوذ على السوق وحده فلا تجد أجيالنا غيره ولا تقابل من هو سواه.
ونحن على يقين بأن ما لدينا ما يغرينا وبأن في ما عندنا ما يروينا، إذا ما أحسنا العمل وإذا ما أخلصنا النية وإذا ما كانت ثقتنا في أنفسنا أكبر مما هي عليه في واقع الأمر.
إن سباق اليوم هو سباق التكنولوجيا واقتصادات المعرفة ولا سبيل إلى الدخول في هذا المضمار وبالتالي الانعتاق من ربقة التخلف إلا بأن يدرك العرب الشروط اللازمة لذلك وأهمها بطبيعة الحال إعادة النظر في نظم التعليم ومناهجه، وإعداد الأجيال الجديدة وتهيئتها لقرن جديد مختلف عن كل القرون الأخرى وهو قرن لا سيطرة للعرب عليه.
ويدعو المؤلف لأن نكون جزءاً من مجتمع المعرفة نأخذ منه ونعطيه، ننهل من مكتسباته ونسخرها لمستقبلنا، نضيف إلى منجزاته ونكون الشركاء المقتدرين على الوفاء بحقوق الشراكة وواجباتها، فقط نستطيع أن نحجز مقعدنا في القطار الذي ينتظره الجميع وهو لن ينتظر أحداً.
إن إعداد الأجيال للمهمة الحضارية التي تنتظرهم هي مسؤولية تاريخية ملحة وغير قابلة للتسويف أو المماطلة أو التلكؤ وهي تأتي في أهميتها وحساسيتها قبل أي مسؤولية أخرى مهما كان حجمها ومهما كان مردودها المادي.
وإن العقول المبدعة المثابرة الطموحة هي التي تخلق المستقبل وهي التي توجده على صورتها وهي التي تفجر الثروة من العدم، وفي الوقت ذاته فإن الثروة بدون تلك النوعية من العقول تشبه أموال السفيه أو المال السائب الذي لا حامي أو مرشد له فيضيع ويتبدد وهو حتماً يتعرض للاستغلال من غير أهله حتى آخر قطرة أو حتى الرمق الأخير.