الجزيرة - خاص
فقه الأقليات مصطلح حديث لم يكن معروفاً في القدم، إلا أنه ظهر في القرن الماضي، وأخذ يتردد بقوة مع بداية هذا القرن، خاصة بعد زيادة أعداد الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، وبدأت حياتها تنتشر وتتشعب وأخذت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها الذي تعيش فيه فهو مجتمع غير إسلامي وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، حيث بدأت تتوق إلى تنظيم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها الإسلامي، ولكنها وجدت أن أموراً كثيرة وأوجها من تلك الحياة لا يمكن التعامل معها من خلال ما هو معروف من الفقه الإسلامي المعمول به في البلاد الإسلامية، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختص بمعالجة حياة هذه الأقلية أطلق عليه مصطلح «فقه الأقليات» وقد تزامن ذلك مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع تلك الجاليات، السؤال الذي يطرح نفسه هل هذا الفقه ضروري لحاجة الأقليات المسلمة، وما الرد على أولئك الذين يتخوفون من ظهور هذا الفقه مع أن الدعاة وطلبة العلم يرون أن هذا الفقه ملتزم بالأصول والقواعد الفقهية في علاج مختلف قضايا الأقليات المسلمة الشرعية والاجتماعية؟
فقه الواقع في الغرب
بداية يؤكد د. محمد علي الجوزو - مفتي جبل لبنان: أن المجتمع الإنساني لم يعد منغلقاً على نفسه كما هو الحال في الماضي، وأضحى المسلمون منتشرين في شتى أنحاء العالم الغربي بحكم الحاجة إلى العمل، والعيش الكريم، أو بحكم السعي وراء طلب العلم، والتخصص في مجالات ثقافية جديدة يمتلك زمامها الغرب، ويتفوق فيها، أو بحكم ما تركه الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين من آثار سلبية أدت إلى نزوح أعداد كبيرة من المسلمين إلى تلك الدول التي كانت تبسط نفوذها على بلاد المسلمين، من ذلك على سبيل المثال ما حدث من هجرة أبناء الجزائر والمغرب وتونس إلى فرنسا وبلجيكا وبريطانيا بكثرة حتى أصبحت العمالة الرئيسية في مصانع تلك البلاد من أهالي شمال إفريقيا، أو هجرة الناس في هذا العصر إلى أميركا وكندا حتى غدا وجود المسلمين هناك يعد بعشرات الملايين، منهم من أقام ولم يعد عنده الرغبة في العودة إلى بلاده ومنهم من يظل على علاقة متقطعة مع أهله، ولكنه انظم إلى هؤلاء المهاجرين، وأمسى واحداً منهم، وهكذا الأمر بالنسبة للمسلمين في أميركا الجنوبية في البرازيل، والأرجنتين، والأكوادور، وغيرها، ومن هؤلاء المهاجرين من يعتز بدينه ويحرص على التمسك بأحكام هذا الدين، في تلك البيئة التي لا تعترف بالإسلام كشريعة، ولا تسمح للمواطنين المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية، وحياتهم الاجتماعية على أسس من الدين الإسلامي، بل تفرض عليهم قوانينها وعاداتها وتقاليدها وتكاد تلزمهم بها.
لذلك كان لا بد من فقه خاص بتلك الأقليات يتناسب مع أوضاعهم في تلك البلاد، فالمسلمون اليوم ليست لديهم القوة حتى يفرضوا أنفسهم وشرائعهم على الآخرين، ولكنهم يستطيعون الحفاظ على الأسس الضرورية، والقيم الأخلاقية والاجتماعية التي يلزمهم بها الإسلام، في ظل مجتمع يستبيح جميع المحرمات تحت شعار الحريات الشخصية.
من هنا كان لا بد أن تنظم أوضاع المسلمين في المهجر، وأن يكون لهم فقه خاص، هو فقه الواقع الذي يعيشونه في تلك البلاد.. فلا يذوبون في تلك المجتمعات، ويحافظون إلى حد كبير، على عقائدهم ومبادئهم وشخصيتهم الدينية والاجتماعية دون أن يصطدموا مع القوانين والقيم التي تفرض عليهم في تلك المجتمعات ويجب أن نعترف أن هناك تقصيراً كبيراً من الجهات المسؤولة في الدول الإسلامية بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، لأن هذه الدول لم تعمل على الاستفادة من وجود هذا الكم الكبير من المهاجرين في الخارج لكي يحافظوا على كيانهم ووجودهم ويكونوا صورة مشرفة لبلادهم في الخارج.
تكوين هيئات
ويشير د. الجوزو إلى أن هناك أجيال من المسلمين انصهرت في تلك المجتمعات وأصبحت جزءاً منها تدين بعاداتها وتقاليدها ومبادئها ولغاتها، مما أفقدها شخصيتها، وأضحت جزءاً لا يتجزأ من شعوب تلك البلاد، من هنا فإن الأمر لا يتعلق بإيجاد مؤسسات فقهية تفتي لهؤلاء بما يناسب أوضاعهم الاجتماعية والإنسانية هناك، بل لا بد من مساعدة هؤلاء المسلمين على تكوين هيئات لهم في ديار الغربة تعنى بالإنسان المسلم وتساعده ما أمكن على تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية، بأسلوب عملي لا يتناقض مع واقع المجتمع الغربي، إذ من المفيد لهؤلاء المسلمين أن يستغلوا أجواء الحرية المعطاة لهم، في وضع أسس لحياتهم تنقذهم من الوقوع في المحاذير وتساعدهم على النجاة من الشركيات والمحرمات والإباحيات التي تدين بها المجتمعات الغربية إلى حد بعيد.
ومن هنا فإن فقه الأقليات ضرورة حتمية لا بد منها، ولكن مع الحرص على مساعدة المسلم على تطبيق الأحكام الشرعية، دون التصادم مع النظم والقوانين التي تفرض عليهم من قبل تلك المجتمعات.
إن وجود المهاجرين المسلمين في الغرب، قد يعود بفوائد كبرى على العالم الإسلامي، لأن الغرب اليوم، يتمتع بمنجزات علمية كبرى يحتاج إليها العالم الإسلامي فإذا استطاع المسلم أن يندمج في هذا المجتمع وأن يستفيد من مناهجه العلمية، وأسلوبه في تطبيق هذه المناهج، وأن ينقل هذه التجربة المتقدمة إلى بلاده فهذا أمر مهم جداً، من أجل تطوير الحياة العلمية والثقافية في بلاد المسلمين، حتى تستطيع اللحاق بركب الحضارة العلمية والثقافية، والرقي بالمجتمع الإسلامي إلى مستوى يجعل من المسلمين قوة ثقافية وحضارية لا تقل تقدماً عن دول الغرب مع احتفاظ الإنسان المسلم بعقيدته وقيمه وأخلاقه وثقافته دون الانهيار أمام بريق تلك الحضارة المادية التي طالما بهرت أعداداً كبيرة من شبابنا فضل وتاه وأصبح عبثاً على أمته وتاريخ أمته، وثقافة أمته، ولا يفرق بين حلال أو حرام وبين إيمان وكفر؟!
تغير الفتوى
أما د. صهيب حسن عبدالغفار - الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، فقال : لقد أصاب الإمام ابن القيّم عندما قال: «إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والعادات»، وهذا ينطبق تماماً على أوضاع المسلمين في العصر الحاضر وخاصة الأقليات المسلمة، فبينما كان الفقهاء سابقاً لم يعرفوا الإداريين، دار الإسلام، ودار الكفر، وذلك لأجل غلبة المسلمين ووجود خلافتهم التي كانت تذود عن حوضهم وترعى مصالحهم ويساند المسلمين الضعفاء إذا وجدوا في غير ديارهم إلا أن أوضاع مسلمي اليوم اقتضت تقسيماً ثلاثياً للدور وذلك بإضافة دار العهد، أي تلك البلاد الغير مسلمة التي يدخل فيها المسلمون بعقد أمان وهو تأشيرة الدخول عادة فتكون لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها أهلها، إلا أنهم لا يزالون تحت حكم غير إسلامي، ووضعهم ما بين النموذجين اللذين وُجدا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نموذج المسلمين المستضعفين في مكة بعدما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ومعظم المسلمين إلى المدينة، ونموذج المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة فبقوا هنالك إلى العام السادس من الهجرة وهو عام فتح خيبر، فكانوا أقلية في كلتا الصورتين، كانوا مضطهدين إلى أن تيسرت لهم العودة إلى المدينة أيضاً.
كانوا في عصر التنزيل آنذاك غير أنهم كانوا يعبدون ربهم ويتمسكون بأهداب الشريعة حسب وسعهم واستطاعتهم فلذلك، من الجائز أن نقول إن فقه الأقليات ليس شيئاً جديداً طرأ على المسلمين بل إنما هو شيء له سالف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان المسلمون ينطبق عليهم في عزهم وسلطانهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، ينطبق على المسلمين المستضعفين قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وذلك بخصوص التقوى وحده، فتسقط عنهم تلك الأحكام التي ليست في مقدورهم، مثل الأحكام التي تحتاج إلى أمر الحاكم المسلم أو القاضي الذي يلي القضاء من قبل ذلك الحاكم، كالجهاد بالسيف وإقامة الحدود، مع جهدهم وجهادهم في الأمور التي لا تزال في وسعهم مثل: عمارة المساجد وإقامة الصلوات وإخراج الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله والتورع من أكل الحرام سواءً كان من المأكولات أو المشروبات أو المعاملات، وبما أن أهل العلم في ديار الأقليات المسلمة أعرف بأحوالها ومصالحها فلذلك، وجب عليهم إرشاد الجاليات المسلمة في أمور دينهم حسب اجتهادهم في ضوء الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، وخاصة في النوازل التي لم تشهدها البلاد الإسلامية سابقاً مثل: الصيام في بلاد ذات خطوط عرض عالمية حيث تطول النهار في الصيف فلا تغرب فيها الشمس إلا للحظات، وتنعدم في بعضها علامات دخول الصلوات مثل صلاة العشاء وصلاة الفجر لالتقاء الشفق الأحمر من مغرب الشمس إلى مشرقها، وهذه أمور لم يعهدها المسلمون في عز سلطانهم حيث لم يواجهوها في حياتهم فإذا لم يكن للأقليات فقهاء، وعلماء ضاعوا فضاع معهم دينهم، فلا بد من فقه يضبط أمورهم ويجبر خاطرهم وهذا الفقه هو فقه الأقليات، ولا يوفق لها إلا من عايش الأقليات وتستر أحوالهم وعرف مداخلهم ومخارجهم فطوبى لمن قام بها خير قيام والسلام.