الخلاف في الرأي لايفسد للود قضية، تقال عندما يختلف اثنان في الموقف من أمر ما، أو عندما يحتدم الخلاف بينهما في تحليل حدث، أوتعليل رأي، تقال من أجل تطييب الخواطر، ومنعا للتمادي والفرقة، ومن كثرة ما تقال الكل صدقها، واعتبرها من الحقائق الثابتة، فصار ترديدها عادة، وأضحت من كثرة ترديدها مسلمة، العجيب أن هذه المسلمة تردد في مختلف الثقافات، وعلى اختلاف الأزمان، والواقع أنها ليست على إطلاقها، فقد دلت بعض المواقف والأحداث عدم دقة هذه المسلمة، وأن صحتها مشكوك فيها، فالنفس البشرية من سماتها التأثر بالمثيرات، وتبعا لها تتأثر الاستجابات، كل يستجيب حسب فهمه، وما وقر في وجدانه، فالاعتقاد بأن الخلاف لايفسد للود قضية أمر دحضه لسان الحال والمقال، على الأقل في المجتمع العربي، فقد ثبت أن الخلاف أو الاختلاف في الرأي يفسد الود، ويعكر صفو العلاقات ليشمل كافة المستويات، ويقلب الود إلى عداوة وبغضاء وكراهية وتدابر وتناحر.
الخلاف يعني عدم الاتفاق، وهذا من سنن الله تعالى في خلقه، انظر الآيات، 118 سورة هود، 93 سورة النحل، 8 سورة الشورى، وحكمة الله اقتضت أن يختلف الناس في أمور لاضير من الاختلاف فيها، بل هي مما يكسب الحياة هامشاً فسيحاً، وحيوية وتجددا وتنوعا، لكن الاختلاف والخلاف في الحق الذي يعد من الأصول الثابتة، أو في ما انعقد الاجماع فيه وعليه فأمر لايمكن القبول به وتسويغه، بل هو أمر مرفوض مذموم.
ولهذا فرق العلماء بين أسباب الخلاف، فالخلاف المذموم له سماته، وكذا الخلاف المشروع، فمن أسباب الخلاف المذموم :غرور النفس بإعطائها قيمة أكبر، ووضعها في مكانة أعلى، سوء الظن بالآخر بتأويل النوايا والمقاصد ولي الحقائق والدخول في أعماق القلوب، التعصب الأعمى لرأي أو عالم أو مذهب أوإقليم، عدم التثبت في نقل الأخبار من مصادرها وتلقفها من ماهب ودب، واعتبار ما يقال بمنزلة الصحيح دون التثبت والتيقن، والأنكى من ذلك كله، توظيف الخلاف من أجل الزعامة والرياسة، والسيادة والقيادة، والصدارة والتطلع إلى المنصب والجاه، ولفت الأنظار، وترديد الاسم في المجالس والمنتديات، أو الانتقام والانتصار للذات.
أما الأسباب المشروعة فمنها: تفاوت العقول والأفهام، فهذا يتمتع بعقل راجح وفهم واع، وذاك يتسم بعقل متأرجح وفهم بسيط، الاختلاف في بعض قواعد الاجتهاد والاستنباط، الاختلاف في فهم علة الحكم، الاختلاف في ثبوت بعض النصوص الشرعية من السنة النبوية، الاختلاف في تنزيل الأحكام على الوقائع، الاختلاف في فهم بعض النصوص الشرعية أو دلالات ألفاظها، الاختلاف في حجية بعض الأدلة، الاختلاف في المصادر الفقهية، الجهل بالدليل لعدم بلوغه، عدم الوثوق بصحة الدليل الذي عند الآخر، الاختلاف على تقدير المصالح والمفاسد، وغيرها مما يعذر فيه المختلف أو المخالف.
وخشية من توتر العلاقات بين الناس و تأزمها، وتقليلا من الخلافات وحسما لمداخلها، عني الفكر الإسلامي بصياغة وتشريع جملة من الآداب التي تضبط الخلاف وترشده، وتضعه في إطاره الصحيح البعيد عن الشطط والزلل، ومن تلك الآداب، إخلاص النية لله، والتجرد من الهوى، رد الأمور عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: إحسان الظن بالمخالف وعدم اتهام نيته والطعن فيه والتجريح في شخصيته وخصوصياته، التزام الحوار بالتي هي أحسن والبعد عن المراء واللدد والخصومة، البعد عن الجزئية في التعامل مع نصوص الشرع أو أقوال أهل العلم والدعوة، التفريق بين مواضع الاجماع ومواضع الخلاف، والتفريق بين الخلاف السائغ، والخلاف الذي لا يسوغ، اعتبار المآلات والنظر في المقاصد، مراعاة عوارض الجهل والاكراه والتأويل.
آداب في منتهى الروعة والسمو، والحكمة والعدالة، وتدل على نوايا متجردة مخلصة تسعى للحق، بعيدة كل البعد عن شخصنة المواقف وانفعالاتها.
أين الواقع من هذه الآداب؟ البون شاسع، وشتان بين مشرق ومغرب.
للحديث بقية