القدس تئنُّ وتشتكي، وتعاني ما تعاني كلَّ يوم من سطوة المعتدي، القدس لم تذق طعماً للراحة والهدوء منذ أن وطئتها أقدام العدو المغتصب، ومنذ أن رأت عيناها تلك الوجوه الكالحة، المعتمة، التي تعبِّر عن أحقادٍ متأصَّلة في قلوب المغتصبين الذين لا يعرفون الرحمة.
القدس تعيش في ضَنْك شديد، وتشرب العلقم من أيادي اليهود، وتمسي وتصبح على قلق وخوف، وتآمُرٍ عالميٍّ يجعل أملها في الإنصاف ضئيلاً، وشعورها بالمأساة كبيراً.
في القدس أحداث يوميةٌ تزيدها ألماً على ألم، وأمتنا في سباتٍ عميق لا تتحدَّث عن القدس إلا كما يتحدث النائم في إفاقاته المتقطعة حديثاً مضطرباً لا معنى له.
في القدس ضربٌ يومي واعتقال، وهدم يومي وقتال، وأعمال حَفْرٍ تحت المسجد الأقصى لا تكاد تنقطع، وفيها صَدٌّ عن الصلاة، ومَنْعٌ من العبادة تتمزق له قلوب المسلمين المقدسيين.
كنَّا في وليمة عشاء ننتظر المائدة التي تضمُّ عشرات الأصناف من الطعام والشراب، وحانت منَّا التفاتة إلى شاشة التلفاز فرأينا عشرات الشبَّان يتلقون من جنود الاحتلال ركلاً وضرباً لأنهم حاولوا الاقتراب من السياج الذي يحول بينهم وبين ساحات الأقصى، وامرأة مقدسية أكملت التجاعيد على وجهها الحزين رَسْمَ لوحتها البارزة تقول: لقد هدموا بيتي الصغير بكل وحشيةٍ وعُنْف، فأصبحت بلا بيتٍ ولا مأوى، ولا طعامٍ إلاَّ ما يجود به عليَّ جيراني من المقدسيين.
وقلَّبنا النظر بين مائدتنا العامرة بأصناف الطعام -الحمد لله والشكر له- وبين ذلك الصوت الواهن لتلك المرأة المقدسية التي تشكو من ظلم الأعداء، وإهمال الأصدقاء، وقلَّة الطعام، وانعدام المأوى، فشعرنا بغصَّةٍ وألم، سرعان ما تلاشيا حينما بدأنا نتناول من تلك الأطايب التي بين أيدينا.
القدس تئنُّ وتشتكي، فإلى متى نغفل عنها وعن أنينها وشكواها نحن المسلمين فرادى وجماعات، القدس جرح كبير، وواقع خطير، فهي قُطْبَ الرَّحَى في قضايا أمتنا، وأحداث عالمنا الإسلامي.
مساجدها تهدم، ومسجدها الأقصى يُهدَّد بالهدم، وبيوت أهلها تُغتصب من أيديهم جهاراً نهاراً، ومباني المغتصبين تقام حول ساحات الأقصى بأعداد مهولة، ونحن في سباتٍ عميق.
بالأمس رأيت في إحدى الشاشات الفضائية صورة مؤلمة لتلك المواجهات التي وقعت في «حارة السعديَّة» في مدينة القدس بين عائلة مقدسية تلقب بعائلة «قرش» وبين عددٍ من المغتصبين المتوحشين الذين حاولوا إخراج أثاث العائلة المقدسية من منزلها المستولى عليه من قبل الجمعيات الاستيطانية، ويا للحسرة لذلك المشهد المؤلم الذي تظهر فيه المعاناة الحقيقية للأسرة المقدسية تحت وطأة الاحتلال، وطول سبات الأمة الإسلامية.
القدس تئن وتقول: ألا أستحق منكم أن ترفعوا أصواتكم باستنكار ما يحدث لي؟ ألا أستحق أن أسمع منكم كلمات مسؤولة تفتح لي نافذة أمل مشرقة في هذا الظلام الدَّامس الرهيب؟؟
أَلاَ؟... وانطفأ السؤال المشتعل، وتعطَّلت لغة الكلام.