لأحد الأصدقاء ممن أولى التأليف والكتابة العلمية حيزاً من وقته وجهده اهتماماً كبيراً بتعديل الكتاب وتصويبه بشكل استثنائي، وحينما أتوجه إليه ناقداً هذا الاهتمام مؤكداً له أن التعديلات والإضافات كالأرقام لها أول ولن تجد لها آخر، يكون رده حاضراً بأنه يضع نفسه مكان القارئ، والقارئ في كثير من الأحيان يعمل حسّه النقدي، ويضع أسئلة بعضها مشروع وبعضها غير مقبول.
وكأني بصديقي هذا يستشهد بمقولة الجاحظ حين قال عن مؤلف الكتاب وقارئه: عقل المنشئ مشغولٌ، وعقل المتصفح فارغٌ، ويقصد الجاحظ بالمنشئ المؤلف أي أنه باله قد يكون مشغولاً بسبب إرهاق الكتابة والكتاب، والمتصفح أي القارئ عقله فارغ (أو متفرغ للقراءة ومن ثم النقد، وهذا حق مشروع له) وكأني بصديقي يستشهد بمقولة الجاحظ الأخرى: ينبغي لمن كتب كتاباً ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له!!
وإن كنت أتفهم معاناة المؤلفين والكتاب أو تخوفهم من النقد من القراء إلا أني أعتقد أنه في بعض الأحيان قد يكون هذا الشعور سبباً في تأخر الكثير من الأعمال الثقافية والإبداعية ثم تخرج متأخرة أو أن يأتي من طرحه أقل جودة فيخرج أعماله ويكون هذا سبباً في عدم خروج كتب قيمة قد يكون صديقنا مؤلف أحدها، كما أني لا أستبعد أن كثيراً من هذه التعديلات والإضافات التي كانت سبباً في التأخر قد تكون في أغلب الأحيان ليست إضافات من الدرجة الأولى، لكنه يصعب التعامل مع العامل النفسي عند الكثير من هؤلاء الكتاب ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت المادة المراد نشرها تتعلق بالحديث عن الآخرين.
ولعلي أسلي أو أواسي هؤلاء الأصدقاء الذين لا يغادر أذهانهم هاجس التعديل والإضافة بمقولة قديمة قالها أحد الأدباء:
إني رأيت أنه لا يَكتبُ إنسان كتاباً في يومه إلاَّ قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِين كذا لكان يُستحسَن، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا مِن أعظم العِبَرِ، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جُملة البشر.
وكما قال أحد الأدباء في بيتين لطيفين:
كم من كتاب قد تصفحته
وقلت في نفسي صححته
ثم إذا طالعته ثانيا
رأيت تصحيفا فأصلحته
وقبل أن يلقي القلم عصا التسيار في هذا المقال، أحب أن أنوّه بأنه لا أدعي للاستعجال أو الإجهاض الفكري للكتب والمقالات، لكني أدعو الكثير من المؤلفين والكتاب لأن يضعوا لهم سقفاً معيناً متى ما وصلوا إليه فيقدموا نتاجهم للنشر.