نعم.. تطورت صناعة الإعلام في مجتمعنا بشكل غير مسبوق في تجربتنا الإعلامية المطبوعة على وجه التحديد، وبتنا ننافس بصحفنا اليومية معظم الصحف العربية على المستويين المهنيين الفني والتحريري. كما اتسعت دوائر حرية التعبير بشكل ملحوظ، اتساقا مع تطلعات القيادة الحكيمة لإجراء جملة من الإصلاحات في بنيتينا الفوقية والتحتية.
وليس الأمر رهينا، فقط، بالمجال الإعلامي الصحفي، فقد بات المشهد الثقافي السعودي مشهدا رائدا على المستوى العربي، ودلفنا بتفاؤل كبير عالمي «السينما» و»المسرح»، وإن لم نزل في المربع الأول في هاتين الصناعتين. لكن مسرحية «طرفة ابن العبد»، التي قدمها سوق عكاظ لهذا العام، تؤكد أننا، إن أردنا المواصلة، قادرون على المنافسة بكل ثقة، وعلى امتلاك آليات الفعل الثقافي الإعلامي بكوادر وطنية مثيرة للدهشة. غير أن ما أخشاه، في غمرة السباق نحو التميز، أن يأخذ بنا سعينا لأن نكون أفضل، إلى منزلق التفرّد، وعدم القدرة على إذكاء روح التكامل مع قرنائنا وأمثالنا ممن يشاركوننا ذات الصناعة ونفس الوسيلة الإعلامية. ساورتني هذه الهموم، وأنا أجلس، على هامش مشاركتي في سوق عكاظ، مع جمع من رواد صناعتنا الصحفية، ممن ينتمون غالبا، وبالصدفة، إلى واحدة فقط من صحفنا اليومية، وكم كانت تلك الصدفة التي جمعتني بهم ممتعة، لما كان يدار من حوار ونقاش ثري عميق متخصص، شخّص فيه المتحاورون جملة من مركبات عملنا الصحفي الوطني، كتّابا وموادا صحفية، ووسائل، وإعلانات، محللين واقع الصناعتين الصحفيتين الورقية والإلكترونية. وكم كان الحوار شيقا ومفيدا. لكن هذا أمر، وما ذهب إليه جل المتكلمين من ثناء على صحيفتهم، ولمز لصحف أخرى أمر آخر. فقد انتهى الحوار إلى شيء أشبه بتصنيف الصحف ووضعها إجمالا في خانة المهمل من القول والفعل، ما عدا تلك الصحيفة التي ينتمون إليها، فهي، كما يرونها، قد جمعت جل سمات وخصائص العمل المهني المتقدم، وخصوصا كتّابها الذين يأتون بما لا يستطيعه الآخرون. جميل، أن نسعد بجريدتنا وندافع عنها، لكن ما لا يمكن قبوله أن نحتكر «المهنية» وأن نظن أنها تلك التي نعمل وفقا لها، نحن، وتعمل وفقا لها «صحيفتنا»، في حين أن الآخرين (في صحفنا يعبثون بالصناعة ولا يفقهون من المهنية شيئا). إن المهنية الحقيقية تستدعي الإقرار ببيئة العمل التنافسية، والمنافسة تنطلق من الإقرار بوجود الآخرين الذين، كما نملك مواصفاتنا للتميز، يملكون هم أيضا مواصفاتهم للتميز. ولا بأس أن «نتمايز» في «تميزنا». ثم لنعمد إلى المقاييس الموضوعية لتحديد الجودة، ولنرض أن نكون أو أن يكون غيرنا «مهنيا» لا أن نعتقد أن حقوق المهنية «صكوك غفران» نمنحها لذواتنا. كما أن كل نجاح لنا أو لشريكنا الوطني في الصناعة هو في نهاية الأمر نجاح لوطننا، ولصورتنا، ولواقعنا «كلنا». ولنستحضر مأساتنا الفكرية مع «الاحتكار» و»التفرد» و»امتلاك الحقيقة»، لعقود مضت، كادت أن تفتك بنا أفرادا وكيانات، لولا أن الله تعالى قيض لنا قيادة حكيمة انتفضت في وجه المحتكرين «للعلم» و»للمعرفة» و»للحق المحض». وحيث كانت صحافتنا إحدى أدوات الفعل في مواجهة تلك المأساة، فلنتيقظ حتى لا نؤتى من حيث أتانا الآخرون. إن أفضل صحيفة من بين صحفنا اليومية، هي تلك الصحيفة التي تؤمن بمبادئ المهنة، وتعمل وفقا لها، وتدرك أن تلك المبادئ حق مشاع لكل من دلف عالم الصحافة، من امتلكها فهو أحق بها.