كان مجتمعنا مجتمعاً بسيطاً، واضحاً، جاداً، متديناً، قبل أن يغزوه الإعلام بكل أشكاله، وحينما دخل التلفاز بعض البيوت السعودية كان الناس في البداية إذا رأوا كوميديا خارجية سمجة، قالوا بسخرية ناقدة: (اللهم لك الحمد، اللهم أعطهم عقولاً تنفعهم وتنفعنا!).
ولم يتمنّ مجتمعنا ولو مجرد أمنية أن يكون لدينا مثل هذه الكوميديا السخيفة التي تعطي انطباعاً سيئاً عن مجتمعها الذي تصدر منه، حتى أن بعض المسافرين إلى تلك البلدان التي تبث منها تلك المسلسلات والمسرحيات التافهة، يتعاملون مع أهلها على أن أولئك الممثلين (المسْخرة) يمثلونهم في الطباع والشخصيات، إلى أن يتفاجؤوا بالاختلاف بين الواقع والتفاهات الإعلامية!.
حتى غزانا الانفتاح وتطورنا ما شاء الله تبارك الله علينا، ونافسنا أرقى الدول في التكنولوجيا، عفواً إنما أعني في (الكوميديجيا)، وصار لدينا حشد من الممثلين الذين ليسوا فقط لا يمثلون جدية مجتمعنا وصلاحه، إنما هم عبارة عن مجموعة (أرجوزات) يتحركون في خفة واستهبال واستهتار بعقلية المشاهد السعودي.
ولم يقف الأمر عند ذلك فقط، بل تجاوزوا حدودهم فتجرؤوا على الثوابت الدينية والخلقية، حتى أن كثيراً من المشاهد التمثيلية تخدش حياء الناظرين، من حركات بذيئة غير أخلاقية، وتشبه من الرجال بالنساء بل تقمّص محرَّم، وهذا كلام يعم معظم المنضوين تحت مسمى التمثيل الكوميدي الهزلي السعودي الحالي، ولا يخص أحداً دون أحد، بل يشملهم جميعاً حتى بعض الذين يخرجون في القناة السعودية لعظيم الأسف.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل أضحى الأمر مجرد حشو أموال بالباطل واصطياد شهرة سلبية أم هو نشر للرذيلة في المجتمع؟! لسنا ضد النقد البناء عن طريق الطرفة الهادفة، لأن الإسلام ليس دين الرهبنة، ولكن ليس إلى حد أن يجعل هؤلاء المهرجون من الشعب السعودي مسخرة الشعوب الأخرى، ولا أن يشوه بعض المنتمين لهذا المجتمع المتسم بالصلاح والتدين والسّمْت الغالب على طباعه، صورته التي رسمها الناس عنه على أنه سادن الحرمين الشريفين التي تهفو إليها القلوب والأبصار.
لم يصدم الطوفان الإعلامي الرديء السعوديين فحسب، بل إنه صدم الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، التي تلهث باحثة عن القنوات السعودية كي تستفيد منها العلم الديني والفتاوى الإسلامية، وتقتدي بفضيلة أهل الحرمين، لذا لا يسع المشاهد السعودي إلا أن يقول لأمثال هذه المسلسلات وتلك القنوات المحسوبة علينا: نرجوكم كفّوا، فقد أصابنا الإعياء والقرف والاشمئزاز، وارحموا شبابنا وشاباتنا من فتنكم، واحموا مجتمعنا من تشويهاتكم.
فهل يعتقد هؤلاء وأمثالهم أن المشاهد السعودي بهذه السذاجة حتى يصدق بعض الأفكار المشبوهة المتعددة التي يطرحونها؟ فمن قال إننا نكره أصحاب الديانات الأخرى والمسيحيين بالذات، لاسيما العرب منهم الذين نتعامل معهم بكل مودة واحترام وتبادل مصالح، متبعين قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}. ولكن إذا كانت هناك كراهية فهي تجاه الذين لم يستثنهم القرآن في هذه الآية الذين دعموا عدونا واحتلوا مقدساتنا وقتلوا أهلنا وهم الذين خصهم تعالى بقوله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ومع ذلك فجميع علمائنا، وجُل مجتمعنا، يرون تحريم الاعتداء على هؤلاء، إلا إذا كان الأمر في ساحة قتال جمعي ترفع فيها راية الجهاد، كي لا تكون هناك فتنة.
أما إن كان هناك داع للدفاع عن سمعة أحد فيجب على الذين يرون أنهم يمثلون الشعب السعودي، أن يدافعوا عن المسلمين المغبونين بتشويه سمعتهم ودينهم مع أنهم في موقع الدفاع وليس الاعتداء، وهذا هو الدور الإيجابي الباقي.
دندنة أخيرة:
بما أن لغتنا العربية لغة دقيقة الكتابة والتعبير، فإن المتخصص فيها يألم أشد الألم إذا حدث هنا أو هناك أية هفوة ولو طباعية، لاسيما إذا نسبت إليه، وخصوصاً إذا كانت تخص أحد مصدري التشريع، كما حدث في المقال الأخير حول التعليم الأهلي، من هفوات طباعية، لاسيما في حديثه صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى) فقد وردت مفردة (امرأ) مجرورة هكذا (امرئ)، والصحيح أنها منصوبة على المفعولية: (امرأً)، لذا لزم التنويه، حفظ الله ديننا ولغتنا من كل شائبة.