لا بأس إن أنا أفردت زاويتي اليوم لشأن آخر لا علاقة له بقضايا المجتمع، وهموم السياسة، وغول الأسعار الملتهبة، ومصائب الأسهم التي لا يكاد يخلو بيت من ويلاتها؛ ولعل الذي أوحى إلي بذلك، حين نظرت إلى المرآة ذات صباح رمادي فهالني ما رأيت من تكاثر (الشيب) في مفرقي، وخلته نذير شؤم، ووداع لمرحلة الشباب، والحق أن هاجس المشيب قد أرّق قبلي الكثير من الشعراء «الرومانسيين»، الذي رأوا فيه ضيفاً ثقيلاً، يبعد الخلان والأحبة، ويدلل على فرار مرحلة العمر البهية، وهو الأمر الذي لا مفر منه ولا ملجأ:
ذهب الشباب فما ماله من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهرب
« ولابن المعتز» الشاعر الرقيق أبيات أحسبها من أجمل ما قيل في هذا الباب، إذ يقول:
«فظللت أطلب وصلها بتذلل
والشيب يغمزها بأن لا تفعلي»
وفي ظني أنه لو عاش إلى زمننا لأعاد النظر فيما قال، إذ لم يعد العمر ضمن قائمة فتى الأحلام عند فتاة اليوم، فقد حلّ محلها (الدراهم) والسفر، والفيلا الفخمة، ولم تعد تنفر من الشيب أو تعرض كما أعرضت محبوبته عنه:
« سألتها قبلة يوماً وقد نظرت
شيبي، وكنت ذا مال وذا نعم
فأعرضت وتولت وهي قائلة
لا والذي أوجد الأشياء من عدم
ما كان لي في بياض الشيب من أرب
أفي الحياة يكون القطن حشو فمي»
وقد حاول الناس والشعراء خاصة من يؤرقهم ذلك، أن يتحايلوا على بزوغ الشيب في وجناتهم، ورؤوسهم فلجؤوا إلى (الخضاب) علّه يواري سوءة المشيب، رغم أنه لا ينطلي على «المحبوبة»:
قالت: أراك خضبت الشيب! قلت لها:
سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالت من تعجبها
تكاثر الغشّ حتى صار في الشعر
وقد تندر أحد الشعراء بالخضاب، ورأى أنه ليس حلاً فهو يؤدي إلى ولادة شيب جديد أكثر نصاعة وبريقاً، خاصة حين يتسلل ببطء من تحت الشعر المخضب بعد أيام، ودعا إلى أن نستسلم لسنة الله فلن يعود الشعر الأسود من جديد:
ياخاضب الشيب الذي
في كل ثالثة يعود
إن الخضاب إذا نضا
فكأنه شيب جديد
فدع المشيب وما يريد
فلن يعود كما تريد
ولولا خشيتي الإطالة لأوردت الكثير مما أحفظ في هذا الشأن، رغم أنني أؤمن أن الشيب لا يعيب المرء فهو دليل وقار وحكمة وتجربة، ومعلم لمرحلة حياتية لها جمالها وهدوؤها، ولا تعني هذه المرحلة -كما يظن كثيرون- أن العواطف (والقلوب) تشيخ وينضب رحيقها، بل تزداد اشتعالاً، و(أخضراراً)، ورغبة في الحياة والجمال، ألم يقل الشاعر:
عمري بروحي لا بعدِّ سنيني
فلأسخرن غداً من التسعين
عمري إلى السبعين يجري مسرعاً
والروح واقفة على العشرين