فكرة (يهودية أرض فلسطين)، التي أطلقها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وقبله الإرهابي إرييل شارون تحت دعوى (يهودية دولة إسرائيل)..
.. ليست فكرةً حديثة تشكلت مع مشروع السلام في الشرق الأوسط، الذي أعلن في مؤتمر مدريد عام 1991م، أو مطلباً تعجيزياً طرحه الإسرائيليون خلال مفاوضات التسوية الجارية بينهم وبين الفلسطينيين لأجل ابتزازهم، إنما هي فكرة قديمة قِدم المشروع الصهيوني منذ مؤتمره الأول في مدينة بال (بازل) السويسرية، الذي ُعقد برئاسة عراب المشروع ثيودور هرتزل عام 1897م، بل إن كتاب هرتزل الذي يتناول تأسيس الحركة الصهيونية والمنشور عام 1896م حمل عنواناً ملفتاً هو (دولة اليهود)، لهذا ف(يهودية الدولة الإسرائيلية) ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني، غير أن هذا المشروع الاستعماري محكوم بخطط ذكية ومحدد بمراحل زمنية تأتي مترابطة وحساسة، بحيث تراعي الوضعين العربي والدولي معاً، ويتم تنفيذها وفق معطيات الواقع بكل اعتباراته السياسية وموازينه العسكرية. وهذا يفسر اختيار اسم دولة إسرائيل بهذا الاسم، كونه يعكس (القومية) وليس الديانة، وقد جاء من وحي وصف (الإسرائيلي) الذي أطلقته حركة أحباء صهيون على (الفرد اليهودي) بعد المذابح التي تعرض لها اليهود في وروسيا عقب اغتيال القيصر الروسي عام 1881م. كما أن التركيز على قومية دولة الكيان الصهيوني الناشئة عند إعلان قيامها في الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي كان مطلوباً، لأن المد القومي العربي كان فاعلاً في محيط الأمة العربية رداً على القومية الطورانية (التركية) وصدى للقومية في أوروبا، وبهذا ينسجم واقع إسرائيل الدولة الوليدة مع محيطها فلا تكون نشازاً أو كياناً شاذاً، ناهيك عن أن إعلان (البعد الديني) للدولة الناشئة قد يُسهم بحركة معاكسة غير محسوبة تتمثل في تحريك فكرة الجامعة الإسلامية عند المسلمين، ومن ثم إدخال الإسلام بشكل فعلي في معترك الصراع العربي الإسرائيلي.
من جانب آخر فإن التطرق إلى يهودية دولة إسرائيل في بداية تكوينها قد يُهدد كيانها، كونه سيُحدث انقساماً خطيراً في نسيج المجتمع الإسرائيلي في ظل التنوع القائم بين يهود الاشكناز (أصول غربية) الذين يشكلون (40%)، ويهود السفارديم (أصول شرقية) الذين يشكلون (36%)، ويهود الصابرا (من آباء ولدوا في فلسطين) الذين يشكلون (24%)، وارتباط ذلك بامتيازات كل فئة ومكانتها ونفوذها في قطاعات الدولة، ما يجعل السؤال حاضراً في خضم هذا الوضع الجديد: إذن لماذا الآن يُطالب الإسرائيليون باعتراف العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون ب(يهودية دولة إسرائيل) على أرض فلسطين التاريخية؟
بتقديري أن السبب يكمن في المكاسب الكبيرة التي حققها الإسرائيليون خلال مسيرة عملية السلام من أبرزها (الاعتراف بدولة إسرائيل) من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي فتح شهية المفاوض الإسرائيلي للمضي في هذه المفاوضات وفق إستراتيجية ذكية تقوم على رفع سقف المطالب وخلق المشكلات، ومن ثم اعتبار تقليص تلك المطالب وحل تلك المشكلات (تنازلاً) منه لابد أن يقابله المفاوض الفلسطيني بتنازل أكبر. من هنا نلحظ أن حديث المفاوضات الجارية اليوم لا تدور حول القضايا المصيرية (حق العودة واللاجئين والقدس والحدود والأمن)، بقدر ما تدور حول مشكلة الاستيطان التي تسبب بها الجانب الإسرائيلي، بحيث لا يمكن حلها إلا بتنازل جديد من قبل الفلسطينيين، خصوصاً أن المفاوض العربي انتهى إلى اعتبار السلام خياراً إستراتيجياً. أما المفاوض الفلسطيني فقد قدم تنازلات كبيرة تتابعت كالسلسلة في سعيه للحصول على دولة ذات سيادة وليس سلطة حكم ذاتي حتى وجد نفسه عالقاً في نفق المفاوضات ذات الاتجاه الواحد، فلا يملك قوة التفاوض ولا يستطيع التراجع.
بينما المفاوض الإسرائيلي هو من يمسك زمام المفاوضات ويفرض شروطه، لهذا نجده قد انتقل إلى ملف (المطالب الحاسمة) على طاولة المفاوضات، التي تُسهم في تصفية القضية الفلسطينية، كما تحقق مكاسب أخرى لدولة إسرائيل اليهودية.
أبرز هذه المطالب هو اعتراف الفلسطينيين والعرب ب(يهودية دولة إسرائيل) على فلسطين التاريخية، لدرجة أن نتنياهو اعتبر هذا الاعتراف التزاماً للحل الذي تنتهي إليه المفاوضات الجارية بين الجانبين على خلفية توجه الحكومة الإسرائيلية إلى تكريس (فكرة يهودية الدولة)، التي قال بضرورتها الكنيست الإسرائيلي في شهر يوليو عام 2003م. وهي فكرة لا تقف عند هوية الدولة، إنما يهودية الأرض التي تُقام عليها هذه الدولة. وهنا الخطورة والكارثة التي تساوي في حجمها الاحتلال الإسرائيلي، لأن (الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل على فلسطين التاريخية) يعني ببساطة أن أرض فلسطين حق يهودي ومِلك لشعب إسرائيل لا يُنازع فيه أحد، وأن الاحتلال هو استرداد هذا الحق. وبهذا يكون إلغاءً تاماً لفلسطين الأرض والتاريخ والشعب وللمعتقد الإسلامي أيضاً، وتصفية كاملة وشاملة للقضية وللحقوق الفلسطينية، (العودة، المقدسات والآثار، تقرير المصير، التعويضات وغيرها). كما أن الاعتراف يعني أن المقاومة كانت عبثاً، وأن دماء الشهداء وآلام الأسرى والمعتقلين ذهبت أدراج الرياح، بل هو إقرار بحق الإسرائيليين في جميع التعويضات منذ آلاف السنين وإلى اليوم، فيبدأ مسلسل ابتزاز العرب والمسلمين كما تفعل إسرائيل بالأوروبيين اليوم، وتحديداً الألمان بسبب ضحايا اليهود في أفران الغاز النازية (الهولوكست). فضلاً عن أن هذا الاعتراف سيُسهم في زيادة معدلات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، فمنذ قيام إسرائيل لم تتجاوز هجرة اليهود (40%) من يهود العالم.
أما الموقف الأميركي من هذه القضية الخطيرة فيبدو جلياً ومختصراً برسالة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي وجهها لكل من نتنياهو وبيريز بمناسبة عيد الاستقلال، قال فيها: (إن فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي).
أخيراً يمكن ملاحظة أن إسرائيل حصلت على (اعتراف بشرعيتها كدولة) في بداية المفاوضات، والآن هي تسعى للحصول على (اعتراف بيهودية الأرض) في نهاية المفاوضات، وبهذا تكون قد حققت بما يسمى «السلام» أكثر مما حققته في الحرب.