من الناس إذا عرفته أو التقيته في إحدى محطات العمر ولو هنيهات يبقى أسير الذاكرة إلى الأبد، قبل لقائه وعند قراءة فكره ومنجزه الأدبي والثقافي واقتفاء أثره نرسم أحياناً في مخيلتنا له صورة ما مشبعة بخيالاتنا وأحاسيسنا المتخيلة ولكن الصورة في الواقع قد تتطابق أو تختلف كلياً مع ما كان.. وما أبهجنا إذا ترجم الواقع أحاسيسنا ورضينا بما أهدانا.
سمعت للرجل.. وقرأت له.. وأدهشني ما كنت أسمع عنه، وشوقني إليه فكره ومنجزه الذي وصل إلى العالمية بما يحمل من عمق وتجدد وتحدٍّ في الوقت ذاته، لا بد أن د. عبدالله الغذامي هو من أتحدث عنه فحين استجاب لاستضافتي له في برنامجي «ذات وكتاب» سألت مراراً هذه الطبيب المقبل على الحياة والشعر والثقافة والذي يشاركني في عملي الثقافي..»وائل المالكي» صحيح أنه وافق على اللقاء وهل من السهولة أن أمثل أمامه لمحاورته؟ هذا الشعور صديقي في كل حلقة ومع كل ضيف لكنه راودني بقوة من قبل حين استضفت العلامة ناصر الدين الأسد مؤسس وزارة التعليم العالي والحاصل على جائزة الملك فيصل العالمية، فالعمل في حقل الإعلام علمني حقاً كيف أحترم ضيوفي وكيف أجتهد لأكون قريبة بما فيه الكفاية من فكرهم وإن لم أصل له، وأن التواضع هو سبيل النجاح وعدم الرضا هو سبيل الاجتهاد، تلك الليلة وما سبقتها قبل لقائي به تحولت إلى تلميذة على مقاعد الدرس والبحث، التهمت كتابه «النقد الثقافي» الذي شغل الدنيا، صغت أسئلة منوعة بعيدة عن المستهلَك.
هذا الرجل جم التواضع.. ذكرني بالمقولة «المبدع هو إنسان متواضع لا يستكثر على الآخرين إبداعه، ولربما هذه الصفة ما حملته إلى الآخرين على جناحي القلب ليدخل آنساً بلا استئذان إلى أعمق أعماقنا.
وقفت أمام اللوحة السوداء طويلاً والمعلقة على أحد الجدران.. لا يمكن أن تكون هكذا دون مغزى.. الكثير من الأفكار والكثير من التكهنات حتى جاء صوت الرجل ليحسم الارتباك: هذه من كسوة الكعبة، إن كل مساحة في بيته تغلفها لمسات فن راقٍ والهدوء هو السمة الواضحة ولا غريب إن علمت أن ساعة خلوده للفراش هي التاسعة والنصف ليحتفظ بما سكبه في آنية فكره.
كنت أنظر للأشجار التي تعانق السور.. للسماء التي تطل من سقف باحة البيت، للطبيعة.. حفيفها.. وتغريدها وهديلها وانسكاب ضوء القمر في باحة الدار.. لأتعرف على المكان الذي يعيش فيه هذا الرجل لأقرأ من خلاله طقوسه وأتعرف على كائنات حياته اليومية.. وحين تشرفت بلقاء عائلته أدركت مساحة إبداعه في تفاصيل الحياة وكيف لمبدع مثله أن تكون امرأة مميزة تمثل شطر الحياة الآخر له.
مبدعونا كالدرر.. لآلئ في محارات يهبنا إياها الله ليكونوا شاهداً على التقدم الفكري والثقافي وليكونوا عصب هذا التقدم وذاك الإبداع.
كانت ذات الغذامي متأهبة للقفز على حواجز اللقاءات الرتيبة والأسئلة المعهودة وقد اتحدت ذواتنا بذاته بين طيات الكتاب لينتقل إلينا بعض بعض ما عنده.وقفة إجلال لفكر الرجل.. لتواضعه الجم.. لسلطة الفكر ووهج الثقافة الذي يتمتع به المكان عند حضوره، وسأظل أذكر كيف تحولت في حضرته إلى تلميذه خاشعة هادئة أرخت أشرعتها في رحلة البحث في متاهات ذات تحمل من العمق والثقافة ما نفتخر به وما يسعد المشاهد من ثراء تجربة.
للقصيبي:
اعظم هداياك لي..
نفسي..