لم تعد الساحة الإعلامية حكراً على النخب، فقد أصبحت منارة لمختلف الفئات وآذاناً صاغية لكلام النخبة وهمس الناس..، في الأمس القريب ظهر في برنامج في المرمى على شاشة قناة العربية اللاعب السابق والنجم الكروي فهد الغشيان وأطلق عبارات ذات تردد عالٍ، عندما وصف الاحتراف في الوسط الرياضي المحلي بأنه نفاق وشحاذة.
جملة تحمل في طياتها أبعاداً قد تختزل تاريخ الحقوق في المجتمع العربي والإسلامي منذ قرون عديدة، وأجد أن اللاعب قد وفق كثيراً في ربط الشحاذة بالنفاق، فالخوف الذي هو حالة المنافق التي يستخدم من خلالها آلية التستر والتسول أوالشحاذة من أجل الحفاظ على بعض حقوقه المشروعة.
إرتبط مصطلح النفاق بمرحلة الإيمان المبكر بالدين الحنيف، وكان يُراد به من يستر كفره ويظهر إيمانه، وكان السؤال عن ما عدا ذلك، وهل يكون نفاقاً؟، أيّ هل إظهار المرْء خلاف ما يبطن في شئون الحياة نفاق مذموم أم أنه مصانعة محمودة؟.. قد تختلط الأقوال على الإنسان العربي في هذا الشأن، فتارة يرى أن عليه الصدع بالحق (فأصدع بما تؤمر)، وأن (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، لكنه قد يستكين أحياناً لقول حكيم العرب زهير بن أبي سلمي (ومن لم يصانع في أمور كثيرة ،،، يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم).. ويستسلم لحالة الخوف، ويرفع راية النفاق والمصانعة.
ليس النفاق بمفهومه الإسلامي هو البراغماتية، التي يقدمها فلاسفتها على أنها المنفعة العملية أو أن المقياس لصحة الشيء منفعته وفائدته، إذ اشتق مفهوم النفاق في لسان العرب من سلوك اليربوع الذي يدخل الجحر من مدخل إذا هوجم، ويهرب من «النافقاء»، وهو موضع يرققه اليربوع في مكان حجره حتى إذا هوجم نقره وهرب منه، ومن ذلك قال بعض اللغويين: سمي المنافق منافقاً لأنه نافق كاليربوع..، والمنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه، وفي الأخلاق أيضاً لا يصح النفاق اجتماعياً، أي في الحالات التي يظهر الإنسان مشاعر أو أقوال غير تلك التي يبطنها من أجل ضمان حد أدنى لمنافعه الذاتية أو من أجل مضرة قصوى لخصمه.
العامل المشترك بين الجربوع والمنافق هو الخوف الشديد، فالجربوع يجعل من حاجز الرمل الخفيف نافقاء رقيقة لتكون ملاذه للهروب، والإنسان يصنع طبقة أو نافقاء رقيقة من العواطف والمشاعر المزيفة والحب المزيف كتقية من الخوف، والنفاق في مفهومه العصري آلية يستخدمها بعض الناس من أجل تسيير مصالحهم، لكنها تشرع لانتشار وسيلة التسول والخنوع الشديد الذي قد يصل إلى درجة المهانة، والتي قد تؤدي إلى مسخ شخصية الإنسان الطبيعية، وذلك بسبب جبروت التسلط وظلم الاستبداد، وهما كفيلان بتحويل الناس إلى كائنات غير سوية، فإما هزيلاً محبطاً أو متمرداً عنيفاً.
لذلك يحتاج الإنسان العربي لثقافة القانون وآلياته وشفافيته التي تضمن استيفاء حقوق الفرد، وتوفر للمظلوم أبواباً مشروعة من أجل نيل حقوقه، وتجعل من المصداقية والنزاهة والاستقامة رصيداً قانونياً ضخماً لحاملها.
لعل آخر دليل على عمق جذور الاستجداء والتوسل عند الإنسان العربي والمسلم استخدامهما لخدمة قضاياه خارج الحدود، في ما تم إنتاجه محلياً في فيلم من قبل شخصيات متعددة الخلفيات الثقافيه، وتم توزيعه على مختلف وسائل الإعلام الأمريكي، والذي كان فيه استجداء وتوسل للرئيس الأمريكي باراك أوباما من أجل إصدار عفو عن السجين السعودي حميدان التركي.
ما حدث كان أقرب أن يكون نفاقاً وتسولاً، وكان له أصداء سلبية وعنيفة على معاملة السعودي حميدان التركي في السجن وفي الرأي العام الأمريكي، إذ يستحيل أن يعفو الرئيس عن قضية جنائية صدر فيه حكم قضائي نهائي من المحكمة الأمريكية العليا..، كان من الأفضل أن تتم مخاطبة الرأي العام الأمريكي من خلال ثقافة القانون، وعبر تقديم البراهين على براءة المحكوم عليه، وإثبات أنه كان ضحية لأدلة غير صحيحة.
أخيراً أقدم اعتذاري إلى لاعب كرة القدم السابق فهد الغشيان على استعارتي لصرخته الإعلامية «نفاق وشحاذة» كعنوان لهذا المقال، مع إيماني التام أن اللاعب يستحق أن يطالب بحقوقه من دون أن يقدم تنازلاً إنسانياً يقلل من احترامه لذاته.