قال أبو عبدالرحمن: بعد أن ألممت بشيئ من ظواهر العدمية الجبرية والاختيارية أرى أنه من اللازم الالتفات إلى مقارنة تاريخية عظيمة الأهمية، ومركز المعادلة بقاع العالم المسيحي التي كانت مهجورة في عدد من القرون منذ أيام نوح عليه السلام وعاد وثمود، وقد قلت في معادلات في خرائط الأطلس:
*والأرض في بطء تدور.
ونصفها المعمور أدنى الأرض غرة الحضارة.
طرس السماء العبقري (1).
وسفرها المضيئ.
لها من الشمس الوضوح والألق.
ووقدة الوهج.
ومنبع الضياء.
تفتحت لها مصاريع السماء.
بالوحي والإعجاز والذكر الحكيم.
نادى بها موسى وثنَّى بعده يسوع.
وبعده توحدت ديانة الخليقة.
بالمصطفى محمد (2).
ثلاثة وعشرة من القرون.
قرون رهبان الدجى.
والفارس الملثم.
والقائد المعمم (3).
يندى جبينه الأغر بالعبير.
والأرض في بطء تدور.
ونصفها المهجور منفى عابدي الصليب.
ضاقت بهم هداية السماء.
مادت برجسهم بلاد الأنبياء.
لكنهم حنوا إلى طبع الجدود والقرود.
والأرض في بطء تدور.
ونصفها المهجور حالك الظلام.
عبر القرون.
ليلاتها طويلة.
والشمس في بحارها مذعورة.
عبورها لمام.
سماؤها غيوم.
وصحوها ثلوج.
وكل من فيها علوج.
وتقرع الأجراس في صبح الأحد.
يدق ناقوس الوصايا والخطب.
وحكمة أبقى عليها سهو أرباب المجامع:
((لا تبتئس من لطمة.
وثنها بخدِّك الثاني وسامح.
والمجد للرب الكريم في السماء)) (4).
وحكمة المسيح في تشنج القديس والعجائز.
أو مومس شمطاء أقلعت.
عنها الخطيئةُ.
مرادها صكُّ البراءة.
مقاعد الكنيسة.
خشوعها لحن وموسيقى طرب.
وهينمات مطربي الكنائس.
في بحة الجوق الهزيلة:
((المجد للرب الكريم في السماء)).
ترنيمة تقال في الكنيسة (5).
وكل عبء للخليقة التعيسة.
كفارة دُقَّت بمسمار الصليب (6).
والأرض في بطء تدور.
ونصفها المهجور عنفوان لحظة.
مسعورة البريق.
يضج بالروائح الكريهة.
روائح الغليون والنَّخْب (7 ).
حضارة سوداء ناعبة.
تسير في عمق الفشل.
حضارة البنوك والربا.
حضارة كأنها.
كمنجة الأعمى فلحنها ضرير (8).
حضارة وقودها الطغيان والغرور.
يقودها التلمود صانع البوار.
على الخليقة.
يعلو ((يهوذا)) فوق أنات العوالم.
قال أبو عبدالرحمن: زعم ذلك شاعر الصهيونية شاؤول تشرنيخوفسكي.. وفي معتقد متديني اليهود أن أهل الأرض آخر الزمان يفسدون فينزل المسيح المنتظر ؛ فتقوم الدولة العالمية الواحدة، والديانة الواحدة وهي اليهودية، ويكون مَنْ سوى اليهود عبداً لليهود.. ثم جاء الصهاينة فقالوا: هذا وعد الرب، ولكنه لا يحقِّقه لنا إلا بفعلنا ؛ فلا بد أن نفسد الناس بالصد عن الإيمان والحثِّ على الإلحاد، وإنهاك العقل بخبال وخيال الفلسفات، وإنهاك الجسم بالمخدرات وشهوات الجسد غير المنضبطة ؛ فجعلوا ربهم -عليهم لعائن الله- يأمر بالفحشاء والمنكر؟!.. وفي سياق الأبيات:
*هم يخنقون الطفل في الرحم.
ويعصرون القمل والذباب (9).
وضُيِّعت ترنيمة الكنيسة:
((المجد للرب الكريم في السماء.
لا تبتئس من لطمة.
وثنِّها بخدك الثاني وسامح)).
وتقرع الأجراس كل يوم.
في قاعة المؤامرات.
تحاك للشعوب والمستضعفين:
توصيكمُ ((البيشوف)) أعداء السلام.
توصيكم فظائع ((الشيكا)) والرفاق (10).
أن تخنقوا الوئام.
بالقوة البلهاء والدولار يقبر الضمير.
هات العصا الغليظة.
يا روزفلت (11).
تلهو بسوط القهرمان.
أن تسرقوا الدواء والغذاء.
تسترحلوا مبادئ المسيح.
كما تشاء رقة العصر الكذوبة.
لباقة عصرية.
لكنها صديد حقد غابر.
كأنها غلالة لعاهرة.
تخفي دمامة الضغائن.
* أن الجنون في صلب العقل والحقيقة !!.. ومن الربط بالأديان أن فتنة عيسى عليه السلام بناءً على عقيدة الصلب عندهم مرتبطة بتضحية إبراهيم الخليل عليه السلام، والذبيح عندهم افتراءً إسحاق عليه السلام؛ ولهذا يجعلون بين العهد القديم الذي هو التوراة وتوابعها وبين العهد الجديد الذي هو الأناجيل والرسائل والرُّؤَى علاقات خيالية تُثري آدابهم، وتُرسِّخ الجنون الاختياري ؛ ليكون الجنون إرادة حُرَّة تسخر بآلام البشرية الواقعية وآمالهم التي هي أحلام.. واخترعوا حيوانات أسطورية ترمز إلى (حقيقة المعرفة) بأنها أيضاً من الآمال التي هي أحلام؛ فالغرابيل (الغيتمنِش) حيوان كبير يزداد طولاً كما نزداد عن الحقيقة بُعْداً.. وهناك حيوان آخر عجائبي يلتفُّ عنقه الطويل جداً ألف مرة حول نفسه؛ وذلك أيضاً رمز البُعْدِ عن الحقيقة.. إن الجنون الاختياري إرادة حرة للسخرية والعبثية والعدمية، وهو سياج صفيق دون العلم بمعرفة حقيقية ؛ ولهذا حكى فوكو جنونية اختيارية عن (كاردان)، ونصها: ((إن الحكمة مثل المواد الثمينة يجب أن تُنزع من قلب الأرض)).. أي لا حكمة ولا معرفة في هذه الحياة على وجه الأرض، وهذا أوسع باب لهيبية الإباحية وفلسفات اللامعقول.. وربطوا حقائق الدين غير مُتَأَثِّمين ولا مُتورِّعين بخيالاتهم المنتجة للإلحاد والإباحية وعقوبات العدمية.. ومع الربط حَرَّفوها ؛ فجعلوا شجرة الخلد (التي قص الله سبحانه وتعالى وسوسة إبليس لعنه الله بها إلى آدم عليه السلام) شجرةَ معرفةٍ وهداية مغروسة في الجنة الأرضية فانتزعت من مكانها؛ فأصبحت الأرض ومن عليها بلا هداية؛ فهم يتحدَّثون بلغة إبليس!!.. وبهذا كان الجنون الاختياري عندهم معرفة حقيقية بأن الوجود عبث ؛ فجعلوا ربي جل وعلا وتقدس خالقاً للإنسان سُدى، وخالقاً للموجودات بلا حقٍّ ولا حكمة؛ فليحذر أدباء الحداثة الاحتواء السريع بلا محاكمة عقلية، وهداية شرعية.. وفي رمزيات الجنون في آدابهم عما سَمَّوه (شجرة نسب الرذائل) ما لا يقوى قلمي على حكايته.. إن الجنون الاختياريَّ عندهم معرفة قلبية، وفي نفس الوقت هو عقاب بالممارسة لمعرفة غير ذات قيمة، ويعنون بها إرثهم؛ وهذا يعني التبديل والتحريف والإسقاط الذي دخل كتبهم ؛ فجعل إرثهم عدماً، وجعل الجنون الاختياريَّ معرفة قلبية هي حقيقة المعرفة.. أي العلم بأن كل شيئ عبث.. قال شاعرهم:
*أنتم أيها العلماء الذين تتمتعون بِصِيت كبير.
التفتوا وراءكم لتتأملوا ميراث الأقدمين وقانونهم.
كتب للفكر لا تتغذى من ضيق الذهن.
ومعنى البيتين الأخيرين أن العلم لا يحصل من الفكر وهو ضِيقٌ ذهني، بل من القلب الذي هو المعرفة الجنونية الاختيارية، وسوء الترجمة فيما يظهر لي جعل المعنى متلعثماً مخالفاً للسياق النثري الذي كان مقدمة لهذه القصيدة.. و(برانت ) من ذوي الغَيرة على الكتاب المقدس الذي يعبث به العابثون، ومع هذا لا يرى الشرور بما كسبت أيدي البشر عقاباً، ولا أنه سبيل النهاية؛ وإنما هو خطأ وعيب؟!!.. ومن ذوي الغيرة أيضاً (رونسار) في نقده مُعَذِّبي المجانين، ولكنه حمَّل المسؤوليةَ العقلَ في فراغه الكبير، ونسي أن الفراغ في المأثور لديهم.. قال:
*لقد طار العقل والعدالة إلى السماء.
ومكانها تربَّع اللصوص.
على أن هذه النغمة هي فلسفة الجنون الاختياري، وكالفين مِن صُنَّاع البروتستانتية التي أصبحت في العالم المسيحي ديانة سبتية، وقد جعل لله سبحانه عقلاً -وعلم الله جل جلاله مباشر بلا وسائط-؛ فقاس العالَم بالخالق جلَّ وعلا؛ ليخلص إلا أن العوالم جنون؛ فهذا مفتاح للعدمية، وترويج للوثنية اليهودية التي بلورها اسْبينوزا اليهودي في رسالة السياسة واللاهوت؛ فجعل نعيم الآخرة مشاركةَ الله في صفاته، وهي وثنية متأصِّلة في لاهوتهم الطبيعي؛ إذ جعلوا الرب سبحانه إنساناً كبيراً، والإنسانَ إلهاً صغيراً.. عليهم اللعنة من الله تترى إلى ما لا نهاية.
قال أبو عبدالرحمن: كتاب فوكو أكبر وأوسع من إيحاء عنوانه: (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، بل هو زخم أدبي مضغوط؛ فاشتد غموضه لهذا الضغط ؛ لأن مصادره التحليلية كتب كثيرة من الآداب الغربية ولا سيما المسرحيات؛ فهي إشارات لأشخاصٍ مسرحية ومواقف ثرية الدلالة جداً لا يستوعبها إلا مَن قرأ المسرحيات أو تفرغ لقراءتها؛ ولهذا فهو مصدر أدبي ثري؛ وإنما المهم الواقع العلمي والعملي في حياة العقلاء، كتفسيرهم الظواهر الكونية المتعلقة بالبشر، ولست أحصي ذلك؛ وإنما أذكر نماذج كحجز الفقراء والمجانين، وخلطهم في الحجز، وتفسير حالاتهم بأنها رمزُ أخلاق رديئة قابلة للإصلاح بالتوبة، وهو إصلاح لا شُمامة فيه للرحمة.. ومن ذلك انتشار الجمعيات السرية لتعاطي السحر، وكذلك الأزمات الاقتصادية كانخفاض الأجور وتفشِّي البطالة وقلة السُّيولة، وكل محجوز لأي سبب يُكلَّف بأعمال تحقِّق رفاهية المجتمع ولكن بأرخص الأجور؛ فكانت أماكن الحجز الغاصَّة مصادر اقتصادية، وكل فاجعة يُعالجها العقلاء (بسبب الفراغ من دين صحيح) بوحشية تُبكي القلوب؛ فالإصابات التناسلية قذارة لا أمراض؛ ولهذا تخفُّ المسؤولية الطبية وتبدأ الوحشية بحجزهم مع المتخلفين عقلياً ؛ ليتلقَّوا العدوى!!.. والدين الصحيح عندنا أولاً الوقاية بالتربية الصالحة من الصغر، ومعانقة الفرد في تأرجحات عمره برقابة مجتمع معصوم العلن يعظ برفق، وينتقد برفق، ويكون الحياء من المجتمع سبباً في تغلُّب الفرد على نزواته.. وفي الدين الصحيح عقوبات محددة وإصلاح، ولا تتعدَّى العقوبة إلى مَن لا ذنب له كضعاف العقول في دور الحجز.. ويكون للقيام بذلك هيئات للحسبة تنظِّم الأمر بمقتضى الشرع في مرحمته وفي حكمته إذا استأصل العنصر الفاسد لدى القوم.. ويسبق ذلك تنظيم أُسري يُحَمِّل الرجال مسؤولية القوامة، ويحقِّق للمستضعفين والنساء حق الكفاية.. وشجرة الأسرة مباركة ممتدة الأغصان، وتسع بظلها فِئاماً من الخلق، وتوجد العاقلة، ولا يسقط ضعيفهم، وكل هذا معدوم أيضاً.. وأصبحت دور الحجز التي لا ترحم فوهة مدفع لقذائف الإلحاد من المحتجزين الساخطين وفيهم ذوو جنون اختياري بسبب الفراغ الديني، وصاحَب الإلحاد والإباحية أنواعٌ من العدمية كالسحر والشعوذة والتنجيم والاعتقاد في الأبراج، وانتشرت الجرائم البشعة، ورجل الدين عندهم يُظهر إصلاحه بالنبوءات الميتافيزيقية ؛ فهذا البؤس تهديد بقرب يوم القيامة.. أي أن هذا قدر من الله كوني فارغٌ من تدبير شرعي يؤلف بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان في امتداده الزمني بين حاضره وناظره !.
إن معظم جنون القوم ليس علاجه رُقْيةَ تَقيٍّ، ولا تجربة طبيب ماهر ؛ لأنه سلوك حيواني اختياري منغمس في كل الرذائل، كما أن ابن ستة عشر عاماً وابنة هذا السن أيضاً كاللقيطين يُطردان من عشهما، وكمن كبر من فراخ الدجاجة تنقره أمه وتُنفِّره.. وعلاج هذا الانفلات بوقاية شرعية صالحة، وتربية مصلحين يكونون قدوة في سيرتهم، ومجتمع في الشارع يصون علنَه الحياءُ، ووعظ فكري مأذون به، وحسبة مأذون بها، وكفاية من الأسرة والمجتمع بحافز الدين ووازعه.. وهذا الانفلات في نفسه عقوبة عدمية ؛ لأنه مسخ للخصائص الإنسانية؛ ولكون هذا الجنون الاختياري انفلاتاً يعني المسخ قال (ماتوران لوريكار) عن الفرد من أفرادهم: ((إنه ذئب باعتبار ضراوته، وأسد باعتبار لباقته، وثعلب باعتبار مكره وخداعه، وقرد وكلب باعتبار نميمته وسبابه وتشنيعه، وثعبان باعتبار بُخله، ولبؤة باعتبار تقلباتها، وفهد باعتبار بِدَعِه، وحية باعتبار شهوانية عينيها، وتنِّين يتحرَّق عطشاً باعتبار إدمانه، وخنزير باعتبار دعارته))، ولو كان الحجز والترحيل والقمع والخلط بذوي الأمراض المعدية مقتصراً على هؤلاء دون غيرهم من ذوي الجنون الجبري: لرأى ذو العقل الذي لا يحمل ديناً صحيحاً أن ذلك عقاب لائق.. إلا أن كثيراً من ذوي العقول تلك يرون ذا المرض العقلي الجبري محبوراً إذا خُلط في الحجز بالمنحلِّين ذوي الأدناس القذرة جداً، والحجة أنهم أسندوا إلى (اللاعقل) كامل حقوقه!!.. ولست والله أعرف في أي دين رباني، ولا في أي تفكير نيِّر فلسفة لكامل الحقوق هذه.. إن المجنون الجبري يعالج، ويُحمى بإذن الله من خطره على نفسه، ولا يُجعل جنونُه غير الاختياري شريعةً لممارسة الانحلال.
وأما الجنون الاختياري في الفلسفات بوعي تضليلي فله شأن آخر لا يسوِّغه الفراغ الديني، ولذلك حديث يأتي إن شاء الله، وفلسفته أنه نقد للواقع المريض.. قال شاعرهم:
*بقدر ما أصقل نفسي وأنحتها
وهذا هو مفتاح الحسبانية، وإلى لقاء بحول الله وقوته، والله المستعان.
(1) قال أبو عبدالرحمن: لأنه بعث فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونزلت عليهم الكتب الإلهية.
(2) قال أبو عبدالرحمن: لأن الله نسخ بشرعه جميع الشرائع، ولم يقبل الله غير دين الإسلام ديناً.
(3) قال أبو عبدالرحمن: التلثم شعار فرسان العرب، والعمائم تيجانهم.
(4) قال أبو عبدالرحمن: المأثور عن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن.
(5) قال أبو عبدالرحمن: أما في الواقع العملي فلم ترفع الظلم عن البوسنة والهرسك وعشرات من الأمم المستضعفة.
(6) قال أبو عبدرالحمن: يرون في دعوى الصليب أن تضحية عيسى بن مريم عليهما السلام كفارة لأخطاء أمته.
(7) قال أبو عبدرالحمن: النخب الخمرة والنبيذ.
(8) قال أبو عبدالرحمن: ويستثنى نوادر كسيد مكاوي.
(9) قال أبو عبدالرحمن: كناية عن جشعهم واحتكارهم ودعوتهم للجنس الحرام والإجهاض وتحطيم بناء الأسرة.
(10) قال أبو عبدالرحمن: هذا إلى مكايد اليهود المتقنعة بالشيوعية العالمية قبل سقوطها.
(11) قال أبو عبدالرحمن: عصا روزفلت الوجه الآخر لسياسة الغرب، والوجه الأول سياسة الدولار لشراء العملاء.
(12) قال أبو عبدالرحمن: وهذا ما حصل في البوسنة والهرسك.