أواصل معكم رحلتنا في مراجعة أوراق سوقنا المالية ننطلق في هذا المقال من أثقل ملفاتها ممثلاً في ملف الاكتتابات التي تصادمت حولها الآراء وتشتتْ، بين مؤيدٍ ومعارض لها، منها «الآراء» ما هو على هدى ورشاد، ومنها ما هو في جهله مستكين. إن التعرّف على حقائق تلك الاكتتابات بمنطق الأرقام، والأرقام فقط من شأنه أن يضمن لك على أقل تقدير أنك تسير في الطريق الصحيح، وأن هدف تقييمك لجدوى تلك الاكتتابات من عدمه على السوق المالية، وعلى مجتمع المستثمرين قابلٌ للتحقق، بل وسيكون ذا معنى حقيقي يقدّم لك نتائج ذات قيمة، تساعدك إما في مواصلة نهجك الراهن في ضخ الاكتتابات كما هو جارٍ حتى تاريخه، أو قد تُخرج لك نتائج معاكسة تماماً تقول لك بصريح منطقها أنك في الاتجاه الخاطئ، ما يضطرك بالضرورة إلى مراجعة سياساتك الراهنة، والعمل من ثم على تغييرها وإعادة بنائها بما يتوافق مع المصالح الكلية والنهائية للسوق المالية والمجتمع الاستثماري على حدٍّ سواء، فماذا تقول تلك الأرقام يا تُرى؟!
إجمالاً تبين لنا دراسةً مختصرة للاكتتابات، أن عدد الشركات التي أُدرجتْ على السوق منذ 2004م إلى اليوم قد بلغ 77 شركة (9 شركات فقط قبل فبراير 2006م، و68 شركة بعده)، توزّعت تلك الشركات بين شركات تحت التأسيس (بدون علاوة إصدار)، وأخرى عاملة (بعلاوة إصدار). حيث وصل عدد تحت التأسيس منها إلى 45 شركة (5 شركات قبل فبراير، و40 شركة بعده)، ووصل عدد الشركات العاملة منها إلى 32 شركة (4 شركات قبل فبراير، و28 شركة بعده). وصلتْ قيمة فاتورة تلك الاكتتابات مجتمعة إلى نحو 84.1 مليار ريال (12.6 مليار ريال قبل فبراير، و71.5 مليار ريال بعده)، دفعها نحو 170.8 مليون مكتتب (27.4 مليون مكتتب قبل فبراير، ونحو 143.4 مليون مكتتب بعده). توزعتْ تلك الفاتورة المدفوعة على (1) الشركات تحت التأسيس بنحو 43.9 مليار ريال (8.4 مليار ريال قبل فبراير، و35.5 مليار ريال بعده)، و(2) الشركات العاملة بنحو 40.2 مليار ريال (4.2 مليار ريال قبل فبراير، و36 مليار ريال بعده). بإغلاق الأربعاء 13 أكتوبر وصل إجمالي القيمة السوقية لتلك الاكتتابات مجتمعة إلى 342.5 مليار ريال، أي ما نسبته 27.5 في المائة من القيمة الرأسمالية الإجمالية للسوق (قيمة اكتتابات ما قبل فبراير 112.1 مليار ريال، نحو 9 في المائة من الإجمالي، فيما بلغت قيمة ما بعد فبراير 230.3 مليار ريال، نحو 18.5 في المائة من الإجمالي)، وبالنظرِ إلى حجم إضافة هذه الاكتتابات في عمق السوق طوال تلك الفترة، فقد وصل عدد أسهمها المصدرة حتى تاريخه إلى نحو 18.4 مليار سهم مصدر (كانت 19.4 مليار سهم عند الطرح، ولكن بسبب التغيرات في رأس المال إما بالزيادة أو بالخفض فيه وصل إلى هذا الرقم)، بمعنى أنها أضافتْ إلى عمق السوق نحو 46.7 في المائة (12.6 في المائة لعدد 9 شركات فيما قبل فبراير، و34.1 في المائة فقط لعدد 68 شركة فيما بعد فبراير). أخيراً وليس آخراً، كم أضافتْ كل هذه الشركات مجتمعة بأرباحها السنوية إلى صافي أرباح السوق؟ وفقاً لآخر بياناتها المالية بنهاية الربع الثاني من عام 2010م فلم تتجاوز مساهمتها في القيمة المضافة للسوق أكثر من 11.3 في المائة (9.8 في المائة لعدد 9 شركات فيما قبل فبراير، و1.5 في المائة فقط لعدد 68 شركة فيما بعد فبراير)..
فضلاً لا أمراً قارئي الكريم، أعد قراءة الستة أسطرٍ الأخيرة في الفقرة أعلاه أكثر من مرة، هنا تتضح وتكتمل أمامك الصورة بدون أي إضافاتٍ، أو مؤثراتٍ إيجابية أو سلبية، فماذا تعني لنا هذه النسب (المساهمة في عمق السوق، المساهمة في القيمة المضافة للسوق)؟! إنها مربط الفرس، وإنها المؤشر الحقيقي للبحث في جدوى أي اكتتاب من عدمه، فكلما زاد الفارق السلبي بين المساهمة في العمق والمساهمة في القيمة المضافة،كلما عنى ذلك فشلاً أو خطأ في التخطيط والتنفيذ! ونحن هنا نتحدث على أقل تقدير على المستوى الكلي للاكتتابات، فلا يمنع أن تكون مزيجاً من الشركات تحت التأسيس (عالية المخاطر) وأخرى عاملة منتجة تحقق أرباحاً لمساهميها، ولكن بشرط أن تتنبه (معادلة المزج) تلك إلى العلاقة بين العمق والقيمة المضافة. انظر إلى شركات (سابك، الراجحي، الاتصالات، موبايلي، سافكو، سامبا، الرياض) تصل مساهمتها في عمق السوق لنحو 24.1 في المائة، وانظر إلى مساهمتها في القيمة المضافة للسوق إذ تبلغ 69.2 في المائة! ما يعني أن ربع الكتلة الرأسمالية للسوق تساهم بنحو ثلثي مكاسب السوق السنوية!! فماذا قدّمت إذاً اكتتابات ما بعد فبراير 2006م التي وصلتْ مساهمتها في عمق السوق إلى 34.1 في المائة غير 1.5 في المائة فقط من القيمة المضافة للسوق؟! وماذا يعني ذلك لنا كجهاتٍ قائمة على السوق، وكمجتمع مستثمرين، وحتى كمؤسساتٍ وشركاتٍ استثمارية يُراد لها أن تكون المسيطرة على كافة أنشطة وتعاملات السوق؟!
لقد أدّتْ المفارقة أعلاه إلى العديد من النتائج السلبية على تعاملات السوق؛ لعل من أبرزها أنها قلّصت من ربحية السوق، وزادتْ من مستويات المخاطرة فيها، بصورةٍ أضعفتْ عبر السنوات الماضية من إقبال المستثمرين والسيولة على السوق، وهو ما بدا واضحاً في تناقص أعدادهم واستثماراتهم، إذ انخفض عدد المحافظ النشطة إلى أقل من 90 ألف محفظة مقارنةً بأكثر من 600 ألف محفظة في 2006م، كما انخفضتْ قيمة التعاملات السنوية من نحو 5.3 تريليون ريال إلى أن وصلت بالكاد إلى 615 مليار ريال خلال 2010م. ينبغي التركيز مستقبلاً من قبل هيئة السوق المالية في سياق إستراتيجياتها المنظمة للاكتتابات على عددٍ من المحاور سيتم تناول أولها هنا، ونستكمل بقيتها الأسبوع القادم بإذن الله.
أولاً- فيما يتعلق بالشركات العاملة التي تُطرح بعلاوات إصدار أن يؤخذ بعين الاعتبار عدد من العوامل المهمة جداً إضافةً إلى الربحية (كالمديونية، والملاءة، والقدرة على الاستمرار في نشاطها)، وألا يُبالغ في سعر طرحها (شكلتْ علاوات الإصدار في الشركات المطروحة بعد فبراير 2006م نحو ثُلثي سعر طرحها)، ويكفي القول: إن أسعارها السوقية اليوم خاسرة نحو 8 مليارات ريال مقارنة بسعر طرحها، فهي من جانب أول بولغ في تسعيرها عند الطرح بناءً على تقديراتٍ بولغ فيها أيضاً عند تحديد نطاقات أسعار الاكتتاب، ومن جانبٍ ثانٍ وبعد إدراجها في السوق ظهرتْ حقائق الأوضاع الداخلية لتلك الشركات بصورتها الفعلية الخالية من التجميل، والتي كان واجباً نظامياً ولا يزال على جميع الأطراف المسؤولة في نشرة الإصدار (حسبما نصّتْ عليه المادة الخامسة والخمسون من الفصل العاشر «العقوبات والأحكام الجزائية للمخالفات» من نظام السوق المالية) أن يفصحوا عنها، إذ توضح الفقرة (أ) من المادة أنه (إذا تضمنت نشرة الإصدار عند اعتمادها من قبل الهيئة، بيانات غير صحيحة بشأن أمور جوهرية، أو أغفلت ذكر حقائق جوهرية يتعين بيانها في النشرة، فإنه يحق للشخص الذي اشترى الورقة المالية موضوع النشرة أن يحصل على تعويض عما لحق به من ضرر نتيجة ذلك. ويعد البيان أو الإغفال جوهرياً لأغراض هذه الفقرة إذا أقيم الدليل أمام اللجنة على أنه لو كان المستثمر على علم بالحقيقة عندما قام بالشراء لأثر ذلك على سعر الشراء). فهي تحمّل المسؤولية كلاً من المؤسس (البائع) والمكتتب (المشتري)، فالأول مسؤول بالكامل عن كل ما ورد في النشرة، والآخر مسؤول عن قراءة كل ما في النشرة قبل قرار الاكتتاب، وهذا حديثٌ ذو شجون واسع سنستكمله بإذن الله الأسبوع القادم.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية