فضّل العرب السكوت على الكلام فقالوا: إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب. ثم قال شاعرهم:
ما قد ندمت على السكوت مرة
ولقد ندمت على الكلام مرارا
هذا التفضيل بطبيعة الحال؛ ليس على إطلاقه، وليس حباً في السكوت لذاته، ولا هو من باب تقبيح أو تكبيح الكلام، ولكن كما قالوا أيضاً في السياق ذاته: الرجال صناديق، ومفاتيحها ألسنتها، ولسان المرء إما نفعه أو ضره، والمرء مخبوء بلسانه. ثم.. وهذا هو لب المسألة: (خير الكلام ما قلّ ودل).
* كم من أناس نعرفهم هنا وهناك، تكثر أقوالهم، وتقل أفعالهم، ولو كان الأمر بهذه الصورة وحدها، فلا يتضرر أحد من أقوالهم، ولا يتأذى أحد بكلامهم، لهان الأمر، ولكن لبعض الألسنة فلتات، ولها نبوات وكبوات، فإذا نبا لسان المرء، قلت هيبته، وحلت خيبته، وبدت عيبته، وجازت نبذته:
وزنِ الكلام إذا نطقت فإنه
يبدي عيوب ذوي الكلام المنطق
كم من كلمة تقف نداً لقائلها، وتتأذى من صاحبها، فتقول له مرات ومرات: دعني.. دعني، قبل أن تتحول إلى رصاصة حارقة وقاتلة، تحرق الأخضر واليابس، وقد تقتل قائلها وسامعها، وتفرق الشمل، وتقطع سبل المودة، وتثير عواصف الحقد والكراهية.
يقال: إن النعمان بن المنذر - وقيل أحد ملوك حمير - خرج ذات يوم تتبعه حاشيته، حتى مروا على تلّة مرتفعة، فوقف النعمان وصار يتأمل بالطبيعة من حوله، عندها تقدّم إليه رجل من الحاشية فقال: ترى يا مولاي لو ذُبح أحدهم على سفح هذه التلة ؛ إلى أين سيسيل دمه؟ ففكر النعمان لبرهة ثم قال: والله ما المذبوح إلا أنت! وسنرى إلى أين سيصل دمك! فأمر به فذبح على رأس التلة. فقال رجل من الحاشية: (رب كلمة قالت لصاحبها دعني)!
نعم.. رب كلمة قالت لصاحبها دعني. كان هذا منذ قرون وقرون، وما زالت تصيح وتقول لصاحبها: دعني.. دعني. رب كلمة سلبت نعمة، وجلبت نقمة، وكلمة تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً. الكلمة مثل الرصاصة، إذا خرجت من فوهة البندقية لا تعود إليها ثانية. يقول الشاعر:
وَفي الصَمتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّما
صَحيفَةُ لُبِّ المَرءِ أَن يَتَكَلَّما
وشاعر آخر يقول في هذا المعنى:
يخوض أناس في المقال ليوجزوا
وللصمت عن بعض المقالات أوجز
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً
فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
لقد بلغت الخشية من انفلات اللسان عند العرب، حد السبك القولي المؤطر بالحكمة الأدبية. انظر كيف صوروا الفرق بين ما هو مفيد من الكلام وما هو ضار، ما هو غث، وما هو سمين: أحمد البلاغة الصمت حين لا يَحْسُنُ الكلام. إذا تكلمت بالكلمة ملكتك، وإذا لم تتكلم بها ملكتها. أنت على رد ما لم تقل أقدر منك على رد ما قلت. إياك وأن يضرب لسانك عنقك. خير الكلام حفظ اللسان. رب سكوت أبلغ من كلام. رب قول أشد من صول. رب كلام يثير الحروب. سلامة الإنسان في حلاوة اللسان. عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان. لا تهرف بما لا تعرف. لسانك حصانك؛ إن صنته صانك، وإن هنته هانك. مقتل الرجل بين فكيه. ملكت نفسي يوم ملكت منطقي. وَجُرْحُ اللسان كَجُرْحِ اليد. ليس المهم أن تقول كل ما تعرف، ولكن الأهم أن تعرف كل ما تقول، هنالك أناس يتكلمون كثيرا مع أنهم لا يقولون شيئا. من صمت نجا. الكلمة أسيرتك، فإذا خرجت من الفم أصبحت أسيرها، حتى قال شاعرهم:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقريباً من هذا قول الآخر:
لسان الفتى عن عقله ترجمانه
متى زل عقل المرء زل لسانه
ثم يقول ثالث:
واحفظ لسانك لا تقل فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
ويقول رابع:
لا تطلقن القول في غير بصر
إن اللسان غير مأمون الضرر
نسب إلى ملوك أربعة أقوال حكمية تبني في هذا الاتجاه المحذر من فلتات اللسان المهلكة. قال كسرى: (لم أندم على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مرات) وقال قيصر: (أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت). وقال ملك الصين: (إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها). وقال ملك الهند: (عجبت ممن يتكلم بالكلمة، إن رفعت ضرته، وإن لم ترفع لم تنقصه). وقال أحد الفلاسفة: (تمنيت أن لي رقبة زرافة، قيل له لماذا؟ قال: حتى إذا خرجت الكلمة مني يطول عليها الطريق، فأعرف هل هي لي أم علي)!
كان الإمام أبو حنيفة جالساً ماداً رجليه، فدخل عليه رجل كث اللحية، نظيف الهندام، تبدو عليه ملامح الهيبة والعلم، فلما رآه أبو حنيفة على ذلك، ظنه من علية القوم، فاعتدل في جلسته، ثم تكلم الرجل وقال: متى يحين موعد الإفطار؟ قال أبو حنيفة: إذا غربت الشمس. قال الرجل: فإن لم تغرب إلا منتصف الليل؟ عندها قال أبو حنيفة: الآن حان لأبي حنيفة أن يمد رجليه..!
ونتذكر في هذا المقام، حديث الرسول (صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه وسلم) مع معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال له الرسول من حديث)... ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال بلى يا رسول الله، قال: امسك عليك هذا، وأشار إلى لسانه. قال معاذ: يا رسول الله، أوَ إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم).
قال تعالى في محكم تنزيله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق- 18).
أخي المتحذلق المتمذلق في المنابر والمحابر: تكلم كما تحب وترغب..! ولكن.. حبذا لو تسمع لبعض كلماتك وهي تقول لك: (دعني.. دعني)..!