موضوع زاوية اليوم الذي استرعى انتباهي، هو العنوان ذاته الذي اختاره الدكتور فهد العرابي الحارثي ليتصدر كتابه الجديد. متلازمتان يؤكد المؤلف أنهما ضروريان لتحقق (القوة) قوة (المجتمع)، وقوة (الثقافة) وقوة (الذات).
هذا الكتاب الذي طُرح مؤخراً في الأسواق، (ثورة مثقّف)، يؤمن، كما يبدو، أن الحل الأنجع لكثير من عوائق فعلنا الحضاري العربي المعاصر..
.. ليس أقل من أن (نثور) على مركبات عجزنا، وعلى مسببات تراجعنا، بعد أن (كنّا) في الصدارة.. مع تأكيده، على أن اجترار (كنّا) هذه، هي لدى الكثيرين منّا تعبير عن النقص الحاصل في كينونتنا. وهو، بذلك، يسترك ليؤكد، أن السنّة الكونية في (مداولة) السيادة على الأرض بين الأمم، لن تكون لصالحنا، بالضرورة، ما لم نكن (نحن) أهلا لها، بالعمل الجاد، وبتفعيل آليات الفعل الحضاري الرشيد والقوي: (العلم) و(الحرية) أيضاً. كتاب.. (المعرفة قوة.. والحرية أيضاً).. حالة من التأمل الثقافي العميق، الممنهج علمياً، والمأطر استدلاليا. فبالقدر الذي عرّض الملف فيه بالثقافة العربية الأفقية، جاءت الأطروحات لتشخّص (رأسيّا) كثيرا من ثغرات النسيج المعرفي العربي المعاصر.. ولأن (العلم) كينونة موضوعية.. فليس له أن يزدهر ويؤتي ثماره، إلا في بيئة تتمتع بالحرية. ومن هنا، أمكن فهم التلازم بين (المعرفة) و(الحرية) في طرح هذا الكتاب.
الكتاب، أيضاً.. (ثورة) تنموية. سعى لتفنيد مشروعات (التنمية الاستهلاكية) (اللحظية) التي ابتليت بها كثير من الأقطار العربية لعقود مضت، مؤكداً على أهمية (منهجة) الفعل التنموي، غير ممتعض من إمكانية التأمل في تجارب تنموية نجحت بقوة، في مقدمتها (التجربة اليابانية)، ومتسائلاً: هل من الممكن أن تحذو الدول العربية حذو اليابان، مثلا، في مشروع تنموي منهجي؟. ذلك أن الرفاه الذي يدخل من باب ثقافة «الإنتاج» وتنمية القيم المفضية إليه، كما يقول المؤلف، هو شيء آخر، مختلف تماما، عن الرفاه الذي يداهمنا من أبواب «الاستهلاك» والكسل، أو من باب الفهم الخاطئ للمستقبل، وشروطه، وظروفه، وتحدياته.
قضايا.. كثيرة في الكتاب..، تعبر عن (ثورة) تشخيصية لواقعنا التنموي العربي الراهن، المشكِل.. في كثير من مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية.. وهو تشخيص، مدعوم بالمقارنات مع (الكبار) في المعرفة، وفي التقنية، وفي إدارة شؤون الحياة.. ذلك ما يجعل لقراءة الكتاب، قيمة إضافية.. فبقدر ما يمكن أن تحفزه تلك المقارنات الموثقة بالمرجعيات العلمية، والمحدَّثة زمنيا، من تطلعات لدى القارئ.. تنطوي على تشخيصات عميقة للجرح العميق في النسيج التنموي والحضاري العربي، وتوضح أن المسافة (بيننا) و(بينهم) (هي المسافة نفسها التي تفصل العقل عن «اللاعقل»، وتفصل التفوق عن الفشل، وتفصل الطموح عن التخاذل). راح المؤلف، في ستمائة صفحة ونيف، يشخص تلك المسافة، ويحدد معالمها، ويقترح، في عدد من الحالات، وسائل إنعاش، وفي حالات أخرى، أدوات فعل إستراتيجي لمواجهة الواقع العربي المأزوم.. والمستقبل العربي المكلوم.. على أن الكتاب، لم يُغفل أبدا.. (تلك الاستثناءات) هنا وهناك في الوطن العربي، وبالذات في منطقتنا الخليجية، وفي المملكة العربية السعودية، من المحاولات الجادة لفعل شيء ما، لدعم (المعرفة) أو (لمنح الحريات). لكنها في (سياق غير متصل)، لا تلبث أن تكشف عن ثغرات جديدة.. تحول دون فعلها في نسق تنموي متكامل. والمنظور العام الذي يطرحه الكتاب لمواجهة الأزمة العربية في الفكر وفي الثقافة.. في التنمية البشرية.. وفي صناعة الحياة.. هو قبول التحدي. وأن ما نريده هو (الشروع في لملمة جراحنا التي تبدأ من أهمية إعادة النظر في طرق بناء أجيالنا لتكون قادرة على استيعاب ما يجري حولها، وتكون مؤهلة للانخراط في السباق الذي لن يتوقف والذي سيقذف إلى خارج الحلبة كل الضعفاء، وكل الواهنين. الكتاب حقيق بأن تعنى به عدد من بيوت الخبرة في الوطن العربي، بتحويل الأفكار التطويرية المتضمنة فيه إلى برامجَ عملِ تنمويِّةً، تقترحها على صناع القرار التنموي في الوطن العربي، مع ما تحتاجه من الشروحات والتفسيرات. فالمعرفة.. والحرية.. متلازمتان.. لمن أراد أن يكون قويا.. في واقع لا يأبه إلا للأقوياء.