أرفين، كاليفورنيا - في الآونة الأخيرة كانت الحكومة الصينية تستخدم لغة قوية غير معتادة بهدف تأكيد سيادتها على المساحات المتنازع عليها من المياه الدولية الواقعة بالقرب من شواطئها. ولقد أدى هذا إلى تصعيد التوترات، وبصورة خاصة بين الصين والولايات المتحدة، في ظل تأكيد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على أن إدارة أوباما على استعداد تام للتدخل الآن والمساعدة في ضمان التحكيم القضائي النزيه في المنازعات المتعلقة ببحر الصين الجنوبي. ولقد ندد المتحدث باسم الحكومة الصينية بهذا التصريح باعتباره ارتداداً إلى أيام حيث تصورت الولايات المتحدة أنها قادرة على محاولة - بل ويتعين عليها أن تحاول - «احتواء» جمهورية الصين الشعبية.
ومن بين سبل تفسير النبرة الصينية المرتفعة - وردها الخشن على المناورات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية - أن نعتبرها بمثابة إشارة أخرى إلى أن قادة الصين اكتسبوا درجات أعلى من الثقة في الذات وأنهم حريصون على فرض أنفسهم على الساحة السياسية العالمية. بيد أن الواقع أكثر تعقيدا. فإذا أمعنا النظر سوف يتبين لنا أن كلمات الرئيس هو جين تاو وأفعاله كثيراً ما يصوغها مزيج من الحس بانعدام الأمن والغطرسة، وأن المسؤولين الصينيين يتناوبون اللعب على أوتار صعود الصين المنخفضة والعالية.
بالطبع، هناك لحظات يبدو فيها قادة الصين وكأنهم أناس يدركون أنهم ناجحون ويريدون أن يعترف الآخرون بنجاحهم. فحتى قبل اندلاع الخلافات الدبلوماسية الحالية، كان قادة الصين يلفتون الانتباه بكل ابتهاج إلى مدى نجاح حزمة التحفيز التي أقروها مقارنة بحزمة أوباما في مواجهة التأثيرات السلبية الناجمة عن الأزمة المالية.
ورغم ذلك، فحين أكدت الأنباء في الشهر الماضي أن الصين احتلت رسمياً المرتبة التي كانت اليابان تحتلها باعتبارها صاحبة ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم، لم يبادر قادة الصين إلى التفاخر بالتفوق على المنافس القديم والتطلع إلى احتلال مرتبة الصدارة التي تحتلها الولايات المتحدة الآن، بل أصدرت الحكومة بياناً يؤكد أن بلدهم لا يزال بلداً «فقيراً ناميا».
إن جانب الثقة بالنفس من الشخصية القيادية المنقسمة في الصين كثيراً ما يثير مخاوف جيران الصين والولايات المتحدة على السواء. ورغم ذلك فمن الأهمية بمكان أن نتذكر أن ثقة الحزب في نفسه تنطوي على جانب إيجابي. وكما زعم العالم السياسي كيفين أوبراين فإن تزايد استعداد الصين للتوصل إلى حلول وسط مع المحتجين في الداخل، بدلاً من التعامل مع كافة أشكال العمل الجماعي بوصفها أعمالاً تخريبية، من الممكن أن يُنظَر إليه باعتباره مرآة تعكس شعوراً متنامياً بالأمان.
وفي المقابل سنجد أن بعض التحركات الصينية الأكثر إثارة للانزعاج من الممكن أن تفسر باعتبارها مشاعر مبالغ فيها بانعدام الأمان. ولنتذكر هنا المعاملة القاسية التي لاقاها المنتقد المزعج ليو جياو باو، والذي صدر الحكم في حقه بالسجن لمدة أحد عشر عاما بموجب اتهامات ملفقة «بالتخريب» بسبب الالتماس الذي نشره على شبكة الإنترنت في إطار حملة لمناصرة الحريات المدنية. ولكن هل كان لمجموعة من النخبة الحاكمة الواثقة في ذاتها أن تتوتر إلى هذا الحد إزاء ما أبداه ذلك الناشط؟
من السهل أن نفهم جانب الثقة في الشخصية القيادية الصينية المنقسمة. فمنذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين وإلى عام 2000، كان العديد من المراقبين يصورون الحزب الشيوعي وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنه لابد وأن يستسلم في النهاية لانقراض اللينينية الذي بدأ بانهيار الشيوعية في أوروبا. ولكن الحزب ظل ممسكاً بزمام السلطة حتى يومنا هذا. أما محلات بيع الكتب في المطارات والتي كانت تعرض ذات يوم كتاب جوردون ج. تشانج «انهيار الصين الوشيك» فإنها تعرض الآن كتاب مارتن جاك «عندما تحكم الصين العالم».
لماذا إذن يواصل حكام الصين الارتداد إلى الشكوك والمخاوف، ولماذا يسعون إلى تجنب وصف الصين بالقوة العظمى؟
لا شك أن التقليل من شأن صعود الصين ينطوي على فوائد عملية. فمن المفيد أن بالنسبة للصين أن يُنظَر إليها باعتبارها دولة «فقيرة نامية» لا أن ينظر إليها بوصفها عملاقاً اقتصاديا، وذلك لأن الدول «المتقدمة» يُنتَظَر منها أن تبذل المزيد من الجهد في مكافحة التحديات العالمية الكبرى، مثل تغير المناخ.
وفي الوقت نفسه فإن الصين لا تزال حقاً دولة «فقيرة» من حيث نصيب الفرد في الدخل. والواقع أن أجزاءً من البلاد أشبه بالبلدان «النامية» المتعثرة، خلافاً لمدن الصين التاريخية الجميلة.
بل إن الحزب في موقف ضعيف - وهو يدرك ذلك. بيد أن هذا ليس بالعذر الذي يبرر جنون العظمة والاضطهاد وعمليات القمع، ولكن مجرد نجاح الحزب في البقاء متجاوزاً كل توقعات الزوال لا يعني أنه لا يعاني من نقطة ضعف خطيرة. والأمر الملحوظ بوضوح أن الغضب إزاء الفساد والمحسوبية، والذي غذّى احتجاجات ميدان السلام السماوي، لم يتلاش قط.
وعلى هذا فإن قادة الصين يواصلون الاعتماد على شكل من أشكال القومية يتمحور حول روايات الضحية. فهم يؤسسون شرعيتهم الآن على فكرة مفادها أن الحزب، الذي صعد إلى السلطة في حين كانت الأمة تحارب الهيمنة الأجنبية، مؤهل بشكل فريد لحماية الصين من التحرشات في ساحة دولية معادية، وأن الحزب هو الوحيد القادر على توفير البيئة المستقرة اللازمة للنمو.
إن الطبيعة المنقسمة للشخصية القيادية الصينية تفسر الظاهرة الغريبة التي تحدثت عنها مستشارة وزارة الخارجية الأميركية سوزان شيرك في كتابها «الصين: القوة العظمى الهشة». وحين ذكرت عنوان الكتاب لأصدقاء أميركيين، تعجبوا من استخدامها لتعبير «هشة»، في حين قال أصدقاؤها الصينيون إن إطلاق وصف «القوة العظمى» على بلدهم أمر سابق لأوانه.
إن العنوان الذي اختارته شيرك لكتابها يرصد ظاهرة مؤثرة تعمل على إرباك العلاقات الدبلوماسية. فالمراقبون من الخارج مقتنعون على نحو متزايد بأن الصين قوة عظمى، وأنها لابد وأن تثبت قدرتها على تحمل المسؤولية كقوة عظمى. ولكن حكام الصين لا يتبنون هذه التسمية إلا في بعض الأحيان - ولا يزال الحزب يتصرف أحياناً وكأن قبضته على السلطة ضعيفة وغير محكمة.
جيفري واسرستروم أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا في ارفين.خاص ب »الجزيرة»