كل الدلائل تشير بصورة أو بأخرى إلى أن التضخم في بلادنا يعود إلى سببين رئيسيين، الأول: محلي، ويتمثل في ارتفاع أسعار العقارات، والثاني: مستورد ويتمركز في القطاع الغذائي بشكل كبير، ويعود إلى انخفاض سعر صرف الدولار أمام العملات الأخرى مثل اليورو والين والجنية الإسترليني التي تستورد المملكة منها معظم المواد الغذائية.
وكما نعلم أن الحكومات تتحرك لمواجهة التضخم من خلال مسارين، الأول: رفع دخل المواطن، والثاني: تخفيض أسعار السلع والخدمات من خلال تطبيق جُمْلة من السياسات الاقتصادية والمالية بل وحتى الثقافية. وإذا أقررنا بذلك أصبح من اللازم علينا أن نطرح فكراً استراتيجياً لمعالجة التضخم بشكل تكاملي، وهو فكر لا يمكن الوصول إليه أولاً قبل الشروع في تطبيقه إلا بعد تشخيص دقيق لأسباب التضخم الرئيسية والفرعية بعد تحليل الواقع تحليلاً علمياً بمنهجيات بحث واستقراء سليمة.
نعم، علينا أن نفكر في معالجة أسباب التضخم بفكر استراتيجي، ولا نقف عند ما تتخذه مؤسسة النقد من إجراءات مالية وما تطلقه من تصريحات؛ إذ يجب أن تتكامل أكثر من جهة مثل وزارة التجارة ووزارة الإعلام ومؤسسة النقد ووزارة المالية (الجمارك)، وزارة الزراعة.. إلخ؛ لإعداد استراتيجية علاجية فعّالة (غير كسولة) ومقنعة تعالج التضخم، وتقوم على الموازنة بين حقوق المستثمرين وحقوق المستهلكين دون إلحاق الضرر بأي فئة من المستثمرين.
أقول هذا بعد أن رأيتُ الحلول الكسولة البسيطة هي الحلول السائدة كما هو الحال في السوق العقارية؛ حيث انطلقت تصريحات عدة تؤكد أن أسعار العقارات لا بد أن تشهد تصحيحات كبيرة، وأن أسعار إيجارات المساكن سوف تهبط بشكل كبير، وأن المستثمرين العقاريين قلقون من ذلك. نعم، استجابت السوق العقارية لهذه التصريحات؛ حيث انخفضت المضاربات بشكل كبير، ولكن الأسعار والإيجارات لم ولن تنخفض كما نأمل إذا لم تتم معالجة المشكلة الأساسية المتمثلة في ضيق القنوات الاستثمارية القادرة على استيعاب ثروات الناس المتراكمة عبر سنوات، بل إنني أظن أن الأمر سيكون أسوأ؛ إذ إن مثل هذه التصريحات قد توقف الاستثمارات في مجال تطوير الوحدات السكنية ليقل العرض وترتفع الأسعار نتيجة الطلب المتزايد.
ضيق القنوات الاستثمارية هو السبب الرئيسي لتضخم الأسعار في السوق العقارية؛ حيث تتجه مدخرات الناس إلى السوق العقارية كقناة استثمارية كبيرة آمنة ومتنامية، خصوصاً شراء الأراضي التي لا تتطلب جهداً ولا رعاية؛ الأمر الذي رفع أسعار الأراضي في الأطراف وداخل الأحياء؛ فارتفعت الإيجارات حتى في الأحياء القديمة كنتيجة حتمية لارتفاع أسعار الأراضي حول المدن حتى باتت الإيجارات تلتهم نصف رواتب الموظفين من الطبقة المتوسطة؛ وبالتالي فنحن بحاجة إلى استراتيجية لفتح قنوات استثمارية منتجة تستطيع أن تستوعب السيولة التي ترتفع بسبب زيادة الإنفاق الحكومي وخشية الأموال من الهجرة إلى الخارج لارتفاع المخاطر. وبكل تأكيد يمكن أن نوجه هذه السيولة لمشاريع تدعم المعروض الغذائي محلياً لمواجهة ارتفاع أسعار الأغذية عالمياً لأسباب العرض والطلب ولأسباب انخفاض سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى.
يقولون في رحم المحن تتولد المنح، وفي رحم المشاكل تتولد الفرص، وأعتقد أن محنة أو مشكلة التضخم يمكن أن تولد لنا فرصة فتح قنوات استثمارية كثيرة تعزز القاعدة الإنتاجية في بلادنا في قطاعات السياحة والزراعة والصناعة والمعرفة وغيرها كثير، ولكن لن يكون ذلك دون استراتيجية تقوم على فكر خلاق تطرح حلولاً تكاملية واقعية تتناسب ومعطيات اليوم وتوقعات المستقبل.