كانت مشاكل الديون السيادية في أوروبا سبباً في تحريك موجة من البحث عن توجهات أكثر فعالية في إدارة الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وخاصة في منطقة اليورو. وبعد بذل جهود استثنائية، أولاً لتوفير التمويل لبرنامج ضبط الأوضاع المالية لليونان، ثم لإنشاء شبكة أمان لبلدان أخرى متعثرة، أسس المجلس الأوروبي فرقة عمل تحت قيادة الرئيس هيرمان فان رومبوي وتتألف في أغلبها من وزراء مالية الاتحاد الأوروبي، وتتلخص مهمتها في تقديم المقترحات فيما يتصل بالإصلاح.
ومن المفترض أن يقدم فريق عمل فان رومبوي تقريره النهائي في أكتوبر/ تشرين الأول، ولكن بوسعنا أن نتوقع النتائج التي سينتهي إليها هذا التقرير في ظل أوجه القصور الكبرى التي تعيب النظام الحالي.
أثناء مرحلة التخطيط لليورو، انقسم أغلب المراقبين إلى معسكرين. فاعتقد البعض أن غياب الاتحاد السياسي - وهو ما انعكس في تصميم اليورو غير المتوازن الذي عمل على تركيز السلطة النقدية ولكنه ترك الميزانية وغيرها من السياسات الاقتصادية (إلى حد كبير) بين أيدي السلطات الوطنية - من شأنه أن يضمن فشل العملة الموحدة. في حين اعتقد آخرون أن اليورو في حد ذاته كفيل بالدفع نحو الوحدة السياسية.
بيد أن أياً من وجهتي النظر لم تقترب حتى من وصف الواقع حتى الآن ويظل من غير الواضح ما إذا كانت المقترحات الحالية قادرة على تسوية القضية، وخاصة من خلال توضيح عناصر الوحدة السياسية الضرورية لبقاء اليورو.
وحين نسترجع الأحداث الآن فقد يبدو لنا الأمر وكأن اليورو كان بمثابة تجربة خطيرة. ولكن القرار الذي اتخذ بالتحرك نحو الوحدة النقدية كان يعكس آنذاك ما بدا الأكثر إلحاحاً والأكثر قابلية للتنفيذ من الناحية السياسية: إزالة عدم الاستقرار الناشئ عن تقلب أسعار الصرف بين بلدان الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي هيمن على الأجندة السياسية لعقود من الزمان.
ولم نشهد آنذاك دعماً لتركيز أي من العناصر المهمة التي تتألف منها السياسة المالية كما هي الحال اليوم. ولكن مثل هذا الانتقال للسلطة لم يُنظَر إليه آنذاك باعتباره ضرورة لنجاح الوحدة النقدية.
بل كان مؤسسو اليورو يعتقدون أن التعرض لأسواق عميقة التكامل للسلع والخدمات، وتبني أنظمة منافسة صارمة، من شأنه أن يعمل على الإبقاء على التوافق بين الأسعار الوطنية واتجاهات التكلفة على نطاق واسع، وأن القواعد المالية المشتركة والمبسطة من شأنها أن تمنع السلوك الخاص بالميزانية في البلدان الأفراد من الانحراف بقوة. أما القواعد المالية، التي تم توضيحها في وقت لاحق في إطار ميثاق الاستقرار والنمو، فهي تشكل في حد ذاتها عناصر تكوين الوحدة السياسية.
وكانت الرؤية الأصلية تتلخص في أن هذا الترتيب من شأنه أن يساعد في ضمان وجود مزيج سياسي موات للنمو، إلى جانب الحرص المالي الذي يعمل على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة في المتوسط. ولم يتم اختيار هذا النهج لأسباب تتعلق بتحقيق المصالح السياسية فحسب؛ بل إن (التنسيق غير المباشر) كان يُنظَر إليه أيضاً كأداة متفوقة اقتصادياً على التنسيق الأكثر مباشرة والذي أوحت به (الإدارة الاقتصادية) ضمنا.
ولقد ترك هذا النموذج في إدارة الوحدة النقدية دوراً ضئيلاً للأسواق المالية فيما يتصل بضبط سلوك الميزانيات الوطنية. والواقع أن تبني القواعد المالية كان يُنظَر إليه باعتباره بديلاً ضرورياً للانضباط الصارم الذي مارسته الأسواق المالية في وقت سابق في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي. وكان من المفهوم أنه بمجرد تبني أي بلد لعملة اليورو فإن انضباط الأسواق المالية سوف ينحصر في الفوارق الائتمانية فيما يتصل بالديون السيادية والتي تبين أنها كانت أقل حتى من كل التكهنات، مع تقارب أسعار الفائدة إلى حد كبير حتى العام المالي 2007-2008م.
وكانت حكومات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي غير راغبة في لفت انتباه الأسواق المالية إلى ضعف الأساسين اللذين قامت عليهما العملة الموحدة: فالقواعد المالية كانت موضعاً للتجاهل، وكانت الأسعار الوطنية واتجاهات التكلفة متباعدة، الأمر الذي يفسر جزئياً نشوء الخلل المتنامي في التوازن بين بلدان منطقة اليورو. وعلى نحو متزايد، كانت الفوارق الضئيلة بين أسعار السندات السيادية معتمدة على افتراض ضمني مفاده أن أي بلد عضو في منطقة اليورو لن يُسمَح له بالوقوع في صعوبات كبرى، على الرغم من القيود المفروضة على عمليات الإنقاذ بين الحكومية.
ثم عاد الانضباط المالي بقوة في العام الماضي، مع تدهور أحوال التمويل العام في عدد من البلدان إلى حد كبير نتيجة للركود وحزم الإنقاذ المالي. وتمشياً مع الخبرات السابقة في البلدان ذات الاقتصاد الناشئ، فسرعان ما حلت تقديرات بالغة التشاؤم للاحتمالات المتاحة للبلدان المدينة في محل التسامح المفرط في السوق.
وبمجرد انتشار التأثيرات المعدية داخل منطقة اليورو إلى حد مشئوم، استجابت الحكومات بالإشراف على برنامج ضبط الأوضاع المالية في اليونان ومن خلال إنشاء مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، والذي يشكل شبكة أمان مؤقتة للبلدان المدينة الرئيسية الأخرى. ولقد تم التنسيق بين هاتين المبادرتين وصندوق النقد الدولي، بهدف ضمان فرض شروط صارمة فيما يتصل بتصرف البلدان المدينة في التمويل الخارجي الذي حصلت عليه.
وباكتساب الوقت الإضافي اللازم بدأت حكومات الاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي، في تحويل الاهتمام الآن نحو تحسين الحوكمة في المستقبل. ومن المفهوم أن تكون الجهود الأولية التي بذلها فريق عمل فان رومبوي موجهة نحو ابتكار آلية أكثر كفاءة في منع الأزمات: الإشراف المكثف على الميزانيات ومراقبة تحركات أسعار الصرف الحقيقية والاختلال الخارجي في التوازن.
وهناك عدد من المبادرات المفيدة تجري الآن في كل من المجالين. ولكن في الأوقات العادية لابد وأن تستمر التوصيات السياسية الناشئة عن المراقبة المكثفة - فضلاً عن فرض العقوبات في نهاية المطاف - في الاعتماد على القوة المقنعة المتمثلة في القرارات التقديرية التي يتخذها مجلس الشئون المالية والاقتصادية التابع للاتحاد الأوروبي. وتتحمل أي دولة متعثرة المسؤولية الأساسية عن تصحيح سياساتها.
والواقع أن تحسين المراقبة - والتجربة المخيفة المتمثلة في مواجهة التكاليف المحتملة المترتبة على الحرمان من الوصول إلى الأسواق المالية الدولية - يقدم لنا الأمل في أن يعمل هذا النموذج غير المركزي لعناصر السياسة غير النقدية في منطقة اليورو على نحو أفضل من الماضي.
إن الدور الذي يتعين على الأسواق المالية أن تلعبه في المستقبل في تهذيب سياسات الميزانية في ظل هذا النظام الإصلاحي يتوقف إلى حد كبير على قدرة فريق عمل فان رومبوي على تحديد آلية لإدارة الأزمات تصلح للعمل في محل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي. ولا ينبغي لنا أن نسمح لهذه الآلية الجديدة، ولا مشتريات البنك المركزي الأوروبية المحتملة للسندات التي تصدرها أضعف بلدان منطقة اليورو، بتقويض الدور البالغ الأهمية الذي تستطيع الأسواق المالية أن تلعبه في تكميل عملية الرقابة المتبادلة الوثيقة للسياسات.
إن أي آلية لإدارة الأزمات في المستقبل - هذا إن تمكنت الحكومات من الاتفاق على آلية مماثلة- لابد وأن تكون حريصة على التحلي ببعض الغموض فيما يتصل بكيفية عمل التأمين المقدم للبلدان الأعضاء، مع التركيز على الإجراءات، وخاصة فيما يتصل بمشاركة الدائنين في تقاسم الخسائر، وعلى مبدأ مشاركة صندوق النقد الدولي في صياغة شروط القروض. إن ترك المجال على هذا النحو للأسواق المالية لفرض أساليبها التأديبية من شأنه أن يزودنا بالأمل في تحمل البلدان الفردية المسؤولية الأساسية عن سياساتها غير النقدية، وهو الأمر الذي لعب دوراً محورياً في صياغة الرؤية الأصلية لليورو.
* أستاذ الاقتصاد الفخري بجامعة كوبنهاجن،خاص بـ« الجزيرة»