ما إن يتمشّق ثوب الليل بتباشير فجر جديد، وتغمض إنارات الشوارع أجفانها بعد انتصاب في ليلٍ بهيم، وتطرد الشمس الغلس، وتستر «بنات النعش» وتلسع بأشعتها الباردة وجوه النائمين، لتعلن للورى ميلاد جيل جديد، ومقوضة أعمار جيل آخرين، فيعود الناس إلى منازلهم بأجسام متعبة، وجفون متورمة من سهر ليل طويل، أو عمل شاق في مدينة مشرعة مقلها لا تغلق أهدابها، ولا تمُلّ الركض اللاهث فيها. مدينة عارية، لكنها كريمة تهب جسدها لكل من يعبرها، حتى للوافد وعابر السبيل. ترضع أبناءها المستورد، في حين تُصدّر حليبها لما وراء البحار بأبخس الأثمان، حتى غدت نُهزة للطامع، ولقمة سائغة للمقيم.
مساءاتها موبوءة بالصخب والضجيج، وصباحاتها مملوءة بأبخرة المصانع ورطوبة البحر حتى غدت رئة المدينة شديدة السخام.
وجريا على العادة أخرج إلى الممشى أطرد نعاساً جثم على أركان أجفاني بعد سهاد اعتدت عليه منذ أمد طويل. تمتلئ جنباته بالأسمال وورود العاشقين وأرقام المراهقين، وينزوي في أركانه المغتربون والمشردون، والآبقون من عيون العدالة. مواءات من هنا وهناك، وعلى أغصان الشجر عصافير وبلابل لا تتوقف عن الغناء، وكأنها في عرسٍ جماعي بهيج، في حين أخذت الفراشات الملونة ترفّ بأجنحتها لتنفض الغبار من على النباتات والأزهار من كثرة المارّة.
أخذتُ أجوب الممشى مع بعض العجائز وبعض الخارجين على التقاعد مبكراً. تتقاطع خطانا دون أن يحيّي أحدنا الآخر، أو حتى ننطق بكلمة واحدة، وحتى لو تلاقت أنظارنا سرعان ما نشيح بوجوهنا لمكانٍ آخر مع أننا حفظنا وجوه بعضنا بعضاً. هذه المدينة أصبحت نهباً لكل التفاصيل الجميلة في حياتي. أسكن وحدي في عمارة من أربع شقق ولأكثر من عامين لا أعرف اسم جاري اللصيق، وربما غادر إلى سكنٍ آخر وحلّ محلّه شخص آخر دون أن أعلم.
وهنا بعد أن تلسع الشمس وجوهنا نفترق على عجل، فأدلف إلى المقهى أتناول فطوري المعتاد كوباً من القهوة، وفطيرة بالزبدة.
يعج المقهى بالوجوه النضرة التي تتبادل الأحاديث الودية، والروائح العطرة تعبق بالمكان، وأصوات اصطكاك الأكواب وفحيح المكائن يزن في الآذان، في حين أخذ المذياع يصدح بألحان السماء، أما التلفاز فأخذ يعرض أخبار الصباح. وسط هذا الضجيج وعبق المكان أغرق في عزلة أقرأ الصحيفة على مهل، أحاول أن أقنع نفسي بأن هذه التفاهات أخبارٌ مهمةٌ وجب طباعتها لتنويرنا. أطلب كوباً آخر وأنادم القلم والأوراق، أشعل سيجارة وأجتر منها بسخاء الأم الرؤوم، ومع كل نفسٍ أجتر سيلاً من الذكريات التي يسيل لها اللعاب أحياناً، وفي أحايين كثيرة أهتك سر ذكريات ملّت الستر في جمجمة جوفاء سكنها الغبار منذ أمد بعيد، تتداعى أمامي الصور ك شريط فيديو مهترئ، متلاحقة أدلقها من خفقان قلم يركض كالمجنون بلا هدى، ولا يتوقف إلا حين تخبو رائحة القهوة من فنجاني ويخمد دخان السيجارة فأطبع آخر قبلة في عقبها علّها تعاود الحياة، فيقطع عامل المقهى حبل أفكاري بابتسامة صفراء، ماداً يده بوريقة صغيرة أنقده وأتحسر على أيام كان المقهى أبسط مما هو عليه الآن.
هذه الطقوس لازمتني بعد وفاة زوجتي وخروجي للتقاعد مبكراً، لم أحاول تغييرها بالزواج أو غيرها. وبينما أنا أعيش هذه الأجواء الرتيبة، انتهك طقوسي شخص كنت أراه يتردد بين الحين والآخر في الممشى وفي كثير من الآحايين يتردد على نفس المقهى، ويجلس عند أي شخص يتفضل عليه بكوب قهوة أو كوب عصير. أقبل صوبي ساحبا كرسيا من الطاولة المجاورة، يعلو وجهه ابتسامة عريضة كعرض السماء، وبعد أن جلس واستقر به المكان سألني:
هل أستطيع أن أجلس؟
تملكتني الدهشة من تصرفه الأرعن!!
لقد رأيتك أكثر من مرة تسير في الممشى في كل صباح، كما أنك تسكن وحدك.
هززت رأسي بالإيجاب. تطاولت يده إلى كوب القهوة وأخذ يرشف منه.
أممم أنه لذيذ جداً، خصوصاً مع هذا الطقس الجميل. ثم مد يده وأخذ الصحيفة وأخذ يقلب صفحاتها بسرعة.
ترى ما الأخبار اليوم؟ ثم أردف:
هذه الصحف لا تصلح إلا أن تأكل عليها الطعام.
حدثت نفسي، يبدو أننا اتفقنا في هذه النقطة فقط! علها ترفع نسبة التفاؤل عندي.
تبسمت على استحياء وأنا ضامم يدي إلى صدري، وأهز رجلي بتضجر. ثرثر بشكل عاصف، وكلما نطق حرف «التاء» رشح من فمه رذاذ ملأ به وجهي.
كانت أمي قد حذرتني في صغري من الاقتراب من الغرباء، فهم دائما يكنون الشر في صدورهم خصوصاً إذا ما حاولوا الاقتراب أكثر من خطوطك المسموحة، لذلك ظلّت أصداء هذه النصيحة تطن في رأسي كلما حاول أحد الاحتكاك بي.
لماذا لم تتزوج بعد وفاة زوجتك؟ فالحي أبقى من الميت.
أحسست بأنه يعلم عني كل شيء، وأسئلته تحاصرني في زاوية ضيّقة، وضعت يدي على الطاولة وهممت بأن أقوم وأترك له المكان إلا أنه صفعني باقتراح استباقي ووضع يده على يدي وقال:
أسمع، لدي لك امرأة بارعة الجمال، من صفاء نحرها ترى الماء رقراقا يتحدر من بلعومها!!
حدجت في عينيه اللتين برقتا بمشاكسة الطفولة، ورحت أحدث نفسي هل أمي كانت على حق بشأن الغرباء، أو ربما كنت أبالغ في ردات الفعل، أو كنت أعاني من فوبيا الاجتماع كما يقول زميلي في العمل سابقاً، ربما كانت أحاسيسي شفافة لا تحتمل الخدش أو حتى نسيماً عابراً، ربما كنت أحمل أفكاراً من الخردوات تجاه الآخرين؟ قد يكون هذا الأرعن على حق فيما يقول! ففي العزلة صنعت عوالم مثالية بعيدة عن الواقع فراحت تتآكل أطرافها على مر الأيام دون أن أشعر، وقد يكون مخطئا فكثرة الثرثرة والاحتكاك مع الناس جعلته يفقد الدهشة، ولا يستشعر الصدمات، ولا تثيره الأحاسيس، فالعين دائما تعشق ما تألف، ربما يكون قد عشَقَ الثرثرة، وأنا عشقت الصمتْ، فكلانا قد عشق عالمه. هو ركض مع التيار ولهث مع القطيع، وأنا سَبَحت ضد التيار وتقوقعت في صندوق من العزلة.
خرجت على عجل، لأفلت من ذلك الثرثار، وأترك المكان لزبون آخر. أعبئ صدري من هواء الكون كله، ومن زفير المدينة، الذي لوثته الأتربة، وعوادم السيارات، وأنفاس البشر الكريهة. عدت إلى المنزل لأستأنف يوماً آخر يخفق بالموت، ولأجد كل شيء قد غطّاه التراب.