فإنّ من أصول الشريعة الإسلامية العلمية والعملية التيسير ورفع الحرج عن المكلفين، قال الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)، وقال سبحانه: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
قال السعدي - رحمه الله -: (فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحساناً، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنّة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم).
وقد ظهرت تلك الغاية العظيمة في أحكام الحج، بل هي من أسراره ومن مركزية استمدد النفحات الإيمانية من شعائره و من دعائم العبودية له سبحانه؛ لذا كانت ومازالت قاعدة رفع الحرج في الحج من أصول الاستدلال لكثير من فروعه.
قال تعالى: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير?، وفي هذا أخبر الله تعالى أنه لم يجعل على عباده في هذا الدين من حرج، وأنّ هذا الدين والحنيفية السمحة التي بعث بها إبراهيم عليه السلام، والحج من أعظم الميراث الذي ورثته هذه الأمة المسلمة عن إبراهيم الخليل. فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه الخمسة، وقال عنه الترمذي إنه حديث حسن صحيح، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي على الناس وهم في المشاعر: أيها الناس كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام. فهذه الشعيرة وهذا النسك وهذا الحج من أعظم ما ورثتهُ هذا الأمة عن إبراهيم الخليل عليه السلام من الدين والحنيفية السمحة التي يسّرها الله سبحانه وتعالى لعباده.
ومن الأدلة الدالة على أنّ هذا الركن وهذه الشعيرة بنيت على التيسير الأدلة الدالة على فرضية هذا الحج؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل فرض الحج مشروطاً بالاستطاعة، ولو تأمّلت فإنّ الصلاة مشروطة بالاستطاعة والزكاة مشروطة بالاستطاعة، والصوم مشروط بالاستطاعة؛ ولكنك لا تجد هذا الشروط مقارنة لفرضية الصيام أو الصلاة أو الزكاة بخلاف الحج، فإنك تجد اشتراط الاستطاعة في الدليل الدال على الفرضية كما قال الله سبحانه وتعالى: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بني الإسلام على خمسة: (... وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا). متفق عليه, فالاستطاعة هنا مؤكد عليها في فرضية الحج وفي وجوب الحج كما لم يؤكد عليها في غيره، مع أنها شرط في الصيام والزكاة لماذا؟ لأنّ هذه الشعيرة شعيرة يرد فيها أنها يمكن أن يكون فيها مشقة وعسر وعدم قدرة، فناسب أن يؤكد على شرط الاستطاعة فيها، وأنّ الحج لا يجبُ إلاّ على من استطاع إليه سبيلا. فإذا كانت الاستطاعة شرطاً في الحج، والعسر مرفوع في أصل فرضية الحج، فرفعه في أجزائهِ وفي أعماله من باب أولى.
ومن الأدلة الدالة على أنّ هذه الشعيرة مبنيّة على التيسير أنه في كثير من أعمال الحج تجد أنها مبنية على التخيير، والتخيير نوع من التيسير، فمثلاً أول ما تصل إلى الميقات تريد أن تحج يقال لك أنت بالخيار بين ثلاثة أنساك، هذا أول التيسير ثم إذا دخلت النسك فإذا أتيت محظوراً من محظورات الإحرام قيل لك {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} على التخيير هذا نوع من التيسير. ولو أنك قتلت الصيد وأنت محرم لقيل لك ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ?، فجزاء الصيد مبني على التخيير.
ويوم العيد مجموعة من الأعمال.. رمي جمرة العقبة والطواف والسعي والحلق والنحر، فبالخيار التقديم أو التأخير، وإذا كان اليوم الثاني عشر أنت بالخيار إن شئت أن تتعجل أو شئت أن تتأخر. كل هذه أدلة دالة على أن هذه الشعيرة مبنيّة على التيسير. فهذا التخيير الذي يوجد في الحج هو نوع من أنواع التيسير على حجاج بيت الله الحرام. وإذاً فالمشقة ليست مقصودةً في هذه الشعيرة، فعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في حجة الوداع بمنى يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اذبح ولا حرج ). فجاء رجل آخر فقال يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ( ارم ولا حرج ). قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلاّ قال: ( افعل ولا حرج ). فالحديث دلّ على نفي الحرج عن الأمة في الحج وفي غيره فإنّ استعماله عليه الصلاة والسلام للحرج منفياً يشعر بعمومه.
والحج في جملة نياته وأقواله وأعماله تنظم علاقة المعبود بالعابد، والحج كسائر العبادات لا يجوز تبديلها وتغييرها أو تعديلها وتنقيحها زيادة أو تنقيصًا بدعوى الاستصلاح المرسل وزيادة الأجر، وتحسين الأداء، ومسايرة التطور، ورفع الحرج، ودفع المشقة، وتقرير التيسير، والأصل فيها التعبد كما أراد المعبود، والامتثال كما أمر الشارع، إذ لا يعبد الشارع إلاّ بما شرع.
وثمة بُعد إيماني يعود على قلب المسلم بالانشراح، وهو التسليم لأوامر الله الشرعية كما يسلم بأوامر الله الكونية، وهذه المعاني جميل تضمينها للخطاب الدعوي المعلن بين صفوف الحجيج، فإنّ ورود التنظير العلمي مع إمكان تطبيقه يحقق مسلك العملية بالعلم في تصرفات المسلم ويستشعر من خلالها مفهوم الإيمان عند أهل السنّة والجماعة الموسوم والمرسوم بكونه قولاً وعملاً واعتقاداً، وهذا بدوره يدفع المفهوم الإرجائي الذي أغبش على كثير من أهل الإسلام مفهوم الإيمان.
أسأل الله لجميع المسلمين التوفيق والقبول في القول والعمل وأن يسددهم في كل خير.
* رئيس مجلس القضاء الأعلى - عضو هيئة كبار العلماء