بكل المقاييس يشكِّل برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي نقلة نوعية وتاريخية في بناء المجتمع السعودي الحديث.. والبرنامج عبارة عن موجات متتالية من المبتعثين السعوديين إلى الخارج.. وأهمية هذا البرنامج تأتي بعد انقطاع كبير بالعالم الخارجي
دام فترة كادت أن تعصف بإنجازات عقدين من الزمن من توالي ابتعاثات أسست بقوة لمشروع التنمية في المملكة.
وأصبح الابتعاث حديث المجالس، وطموحات الشباب والشابات من أبناء المملكة، وأصبح المتنفس الطبيعي للإحلال البشري في بلادنا ولمؤسساتنا الخاصة والعامة.. ووصول هذا البرنامج إلى نحو ثمانين ألفاً يُعدُّ رقماً استثنائياً، سيكون له دور في استكمال مشروع التنمية في بلادنا بمشيئة الله.
وإذا نظرنا تاريخياً إلى أعداد الطلاب المبتعثين في العالم سنجد على سبيل المثال أنه في عام 1975م وصل عدد المبتعثين الذين يدرسون خارج بلدانهم إلى ثمانمائة ألف طالب، وارتفع هذا الرقم في عام 2008م إلى ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف طالب، ومعظم الطلاب هم من الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا. وقد وصلت نسبة من يدرسون في الولايات المتحدة الأمريكية من طلاب الصين إلى 17 %، والهند نحو 15 %.. وهذه أرقام كبيرة، ومستمرة منذ سنوات طويلة ضمن رؤية استراتيجية لكلا البلدين في تعليم أبنائهما ونقل المعارف والعلوم والتقنية. وقد وصل عدد الطلاب المبتعثين إلى الولايات المتحدة وحدها عام 2008م إلى أكثر من ستمائة ألف طالب من جميع دول العالم.
أما الحقيقة الصارخة في هذا الابتعاث مقارنة بما هو متاح في برنامج الابتعاث السعودي فهو أن نحو 70 % من الطلاب المبتعثين من جميع دول العالم هم في تخصصات غير تلك المتاحة وفق برنامج خادم الحرمين الشريفين.. وهنا أقصد الابتعاث إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً بوصفها أكبر دولة في العالم في استقبال الطلاب المبتعثين.. وحسب هذه الإحصائيات فإن نحو 70 % من الطلاب المبتعثين في الولايات المتحدة الأمريكية هم في تخصصات مثل التربية واللغة والإعلام والزراعة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد تتقاطع بعض التخصصات التي نتيحها لطلابنا مع بعض من تلك التخصصات بشكل عام، ولكن معظم التخصصات التي تتيحها برامج الابتعاث في دول العالم تغيب عن التخصصات التي نحصر فيها طلابنا.
وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أن جهات أخرى غير وزارة التعليم العالي توفد طلاباً مبتعثين في تخصصاتها، ولكنها تظل في حدود ضيقة جداً ولا تلبي تلك الاحتياجات الكاملة لتلك الجهات، بينما يظل المجتمع في كليته يفتقر إلى وجود عناصر ودماء جديدة في مختلف التخصصات، وهي غائبة عن برنامج الابتعاث عبر وزارة التعليم العالي.
وما نرجو ونطالب به في سياق رؤية استراتيجية للابتعاث في المملكة هو إتاحة فرص جديدة لتخصصات إنسانية واجتماعية وتربوية وغيرها، حتى ولو كانت على نطاق ضيق. فلا نريد أن نكون منحازين إلى تخصصات طبية وعلمية فقط، مهمشين دور الفكر والثقافة والعلوم الإنسانية والاجتماعية في معادلة التنمية في المملكة العربية السعودية. وخير دليل على ذلك أن دولاً مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها من دول العام تعطي التوازن في برامجها الابتعاثية، بل إن معظم مبتعثيها هم في التخصصات الإنسانية والاجتماعية بشكل عام.
فأرجو من معالي وزير التعليم العالي أن ينظر بعين - لا نقول المساواة بل - التوازنات المجتمعية، ويعطي فرصاً جديدة لتخصصات ليست في قائمة التخصصات الحالية. وأضرب أمثلة معينة في هذا الخصوص، وهي ليست حصرية بطبيعة الحال -:
-1 نحتاج إلى ابتعاث في تخصصات عن دراسات مجتمعات العالم، مثلا الدراسات الأمريكية، الدراسات الروسية، الدراسات الصينية، الدراسات الأوروبية، وغيرها من دول العام.. فلو كان هذا البرنامج متاحاً لأمكن لنا أن يكون لدينا خبرات عالمية عن لغات وثقافات ومجتمعات دول كثيرة في العالم.. وفي ظني أن وزارة الخارجية ستكون أول جهة تستفيد من المبتعثين العائدين من مثل هذه الدراسات.
-2 الإعلام.. فمن المعروف أن الإعلام هو جزء ومكون أساسي في المجتمع.. وحالياً وفي كل الجامعات السعودية تتعثر جهود الابتعاث الخارجية لأسباب مالية وإدارية، وجميع هذه البعثات لا تلبي احتياجات أقسام وكليات الإعلام في المملكة، ناهيك عن احتياجات مجتمعية في وسائل الإعلام والصحافة وغيرها من الوزارات والأجهزة في مجال الإعلام. ونعلم أهمية الإعلام وصورة المملكة - دولة ومؤسسات ومجتمعاً - في العالم، ولا نستطيع أن نطورها أو نحسنها دون أن يكون لدينا خبراء درسوا وتعلموا في مجتمعات متقدمة في الإعلام.
واستراتيجياً، لا نريد أن ينقسم المجتمع في المستقبل إلى نصفين: نصف تعلم ونقل الثقافة والحضارة العالمية، ونصف آخر استكان إلى التعليم المحلي، وأصبح ذا أفق محدود ضيق بعيد عن الحضارات العالمية، ولا يعرف شيئاً عما يدور في العالم.. ونعلم أن هؤلاء في التخصصات الإنسانية والاجتماعية هم أصحاب قرار المستقبل وليسوا في الأغلب من خريجي التخصصات الطبية والعلمية.. ما نريده من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي هو أن يستمر ويتوسع، ولكن يجب أن يراعي احتياجات المجتمع الأخرى.
* المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية- أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود