أمقت أن يكون أحدنا مثل (الخرمنجي) الذي يتذوّق الدخان ويصنف جودته من أول (مزة)، حيث يعتمد على حاسّتي الشم والذوق، لكنه لا يعلم بأنّ هاتين الحاستين المهمتين العظيمتين قد يصيبهما التصدُّع والوهن نتيجة ميكروبات أو فطريات تتسبب بضرب أطنابهما بقوة الأعاصير البحرية المدمرة والقاتلة،
وأكره أن يجيد أحدنا (المناقرة) أو يتسلّى بالصراعات والعداوات والحروب الكلامية أو يشحن نفسه بالكره والبغض والهجوم دون الدفاع الحسن، أو يميل إلى التصريحات والخطابات النارية والاتهامات المباشرة غير المبررة، أو أن يكون (شراني) أو (فلتان) أو (ملقوف) أو يعمل بطرق ملتوية وغير سوية، أو أن يكون له وجهان وجه في الصباح ووجه آخر في المساء، بل أريد أحدنا أن يملك كنزاً من الأخلاق والمبادئ الحسنة واحترام الآخرين وحقوقهم أياً كانت أشكالهم أو ألوانهم أو أحجامهم أو انتماءاتهم القبلية أو العائلية أو مشاربهم الثقافية أو مواقعهم الاجتماعية، وأحب أن يغضّ أحدنا الطرف كثيراً عن (الهمز) و(اللمز) و(الغمز) وأن يكون بعيداً عن الكذب والبهتان والنفاق والرياء والتجريح والتزوير وقلب معدّلات الحقائق ومحاولة الوصول للأهداف والمقاصد عن طريق لفظ الآخرين ورميهم جزافاً وعدواناً ظلماً وجبروتاً، وأن لا يحاول الخلط بين (الفنتازيا) والواقع، وأن لا يملك ثقافة الاستعلاء وحب الفوقية والتعالي والخيلاء والعنصرية والحقد والبغض والتصنيفات الاجتماعية الطبقية البائدة والنتنة، وأن لا ينعت الآخرين بألقاب وأسماء غير صالحة كأن يطلق عليهم صفات منافية للواقع وبعيدة عنه، وأن لا يبسط نفوذه الثقافية والبيئية، وعليه أن يلبس ما يناسبه ويروق له لا ما يناسب غيره ويروق لهم، وأن يبتعد كثيراً عن تصنيف الناس إلى تيارات وفئات أو إلى أحزاب وطوائف وجماعات، إنني أؤمن بيقين تام أن ثوباً (مقلماً) يرتديه الإنسان على (سروال) صيني وينتعل (زنوبة) بلاستيكية صناعة هندية، قد يكون أفضل تفكيراً وفهماً وحيوية وأوسع إدراكاً وثقافة وأرق شعوراً من إنسان يرتدي أفضل الأقمشة اليابانية وينتعل أفخم الماركات من الأحذية، ويقتني أجمل الأقلام الألمانية الصنع ويدهن وجهه في كل وقت وحين بكريم (سان لوران) بحبيباته الكرستالية المصنوعة بعناية فائقة، ويلبس أجمل (المشالح) ويتعطر بأفخم عطور (دهن العود)، إنّ ما دعاني لقول ذلك هو نوعية بعض الناس ممن يصنّفون أنفسهم تحت خانات (المثقفين) أو (الإصلاحيين) أو (التنويريين) أو (المقومين) أو (الأحباب) أو (الهداة) أو (المرشدين) إزاء بعض سلوك البشر التي لا تروق لهم بأسلوب مخيف وقاس ومناف لأبسط أنواع الأخلاق والأعراف الاجتماعية والتعاليم الدينية الوسطية السمحة، دون حكمة لا في القول ولا في الفعل ولا في الدعوة ولا في الإرشاد ولا في الوعظ ولا وعي بكيفية الوصول إلى الأهداف السامية المبتغاة، إنّ هؤلاء يشبهون الأسماك التي حاولت الخروج من الماء احتجاجاً على الصيادين وقررت القفز إلى اليابسة والعيش فيها، لكنها لم تعش كما كانت تتمنى وتريد، إنهم يشبهون بالضبط وبدقة جملية وبلاغية القاذفات السوفيتية العملاقة على (وادي بنشر) و(ممر خيبر) و(وادي بانكيز) و(جبال تورا بورا) في أفغانستان، وتبعتْها بعد سنوات القاذفات الأمريكية العملاقة، ومع ذلك فإنّ النتيجة أصبحت أكثر ثباتاً ووضوحاً بأنّ القوة وحدها والغضب وحده و(نفش) الريش وحده و(العنجهية) وحدها لا تحل مشكلة، وأنّ الحوار الهادئ المتزن أمضى بكثير من قاذفات الصواريخ الإستراتيجية العملاقة والقنابل العنقودية والمدافع الطويلة المدى. إنّ على هؤلاء أن يعوا أنّ عصر القوة العمياء وإبراز العضلات و(البرطمة) و(التكشير) و(العيون الحمراء) قد ولّى غير ما سوف عليه، وإنّ مواجهه الفكر المضاد ب(مدحلة) كاسحة غير مطلوب بل مرفوض علماً وعقلاً ومنطقاً. إنّ (المفلسين) هم أولئك غير القادرين على إدراك الحقائق العصرية الحتمية. إنني أطلب من هؤلاء أن يدركوا جيداً أنّ الحراك الحواري والثقافي بكل تنوّعاته يجب أن يسود ويجب أن لا نتركه يتراجع أو يتداعى أمام الشعارات الفارغة والمزعجة ومحاولة لجم الآخرين واتهامهم بتهم مجافية للحقيقة ... إنها دعوة صريحة لهؤلاء لمراجعة النفس، فهي السلاح الوحيد للتصحيح والسعي نحو الأفضل والأجمل، وعلينا جميعاً أن نواجه ثقافة التسلُّط والتوحد والأنانية ورمي الآخرين بالحجارة، والوقوف بحسم ضد ترويج ثقافة الهدم والتقهقر والعنصرية البغيضة وتصنيف الناس ووضعهم في خانات ومكعبات تصنع لهم خصيصاً من قِبل أصحاب الأمزجة والأهواء والغايات والأهداف المريضة بطرق مباشرة وبطرق أخرى (رمزية) قد تخفى أحياناً على الكثيرين من المتلقين، وحتى لا ينطبق علينا المثل: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).