أن يختار الدكتور فهد العرابي الحارثي وللمرة الثانية بيروت لكي يُطْلق منها عبْر «الدار العربية للعلوم» إحدى دور النشر الأكثر رصانة وعناية بما تنشر وفي شتى التخصصات والهويات ومن دون أن تقترب من خطوط الرقابة العربية المكهربة (بفتح الراء وبكسرها أحياناً أخرى)، فهذه شهادة عدْل هادئة في وسط الصيحات المزدهر سوقها في لبنان وتدور حول ما يسميه الصُيَّاح شهود الزور. وشهادة الدكتور فهد تكتسب في نظرنا أهمية مزدوجة كونها تأتي من أحد رموز الريادة الإعلامية والثقافية والبحثية في العالم العربي انطلاقاً من «مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام» الذي أنشأه في الرياض ورفد من خلاله المؤسسات التعليمية ودواوين وإدارات صُنَّاع القرار بدراسات اعتمد الباحثون والمستطِلعون والمحلّلون فيها الأسلوب العلمي الذي يضيء وينبه، وبصرف النظر عما إذا كانت الإضاءة مبهرة أكثر من اللازم والتنبيه لحظة صادمة.
بعد كتابه السياسي الفكري «أميركا التي تعلّمنا الديمقراطية والعدل» وهو مواجهة هادئة وفكرية وبعيدة عن الأحكام المطلقة والتوصيفات التي تدغدغ مشاعر الأصولية السياسية وتحفز حناجر أصحاب هذه المشاعر على الهتافات الصارخة التي تؤذي حناجر الهتَّافين أكثر مما تبدِّل من مساوئ السلوك الأميركي.. بعد هذا الكتاب الذي، إذا أصاب استخلاصي له، كان مطالعة من جانب أحد محامي ملائكة العلاقة العربية المتوازنة مع الولايات المتحدة في وجه تنظيرات من جانب محامي الأبالسة الذين درجوا على تصوير أميركا بأنها الديمقراطية بعينها والعدل بعينه ثم تؤكد الوقائع في أكثر من بقعة عربية مستباحة أن «العم سام» في أشد الحاجة إلى إعادة النظر في ثقافته لجهة مفهوم الديمقراطية وأصول العدالة خارج الولايات المتحدة. وهذه الإعادة بدأنا نلمس بعض ملامحها الخجولة نتيجة جهد مشكور من جانب الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي رأى في باراك أوباما الرئيس الأمريكي الوحيد بين السابقين الذي ربما يقتدي بمفهوم العلاقة التي وضع خطوطها القائدان التاريخيان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة عندما التقيا يوم 14 شباط - فبراير 1943 فوق تخت رسا من فوق مياه البحيرات المرة في مصر، ثم جاء الثالث والثلاثون الرئيس السيء الذكر هاري ترومان ليبعثر تلك الخطوط أسوأ بعثرة ويدشن إذا جاز القول سياسة الاحتضان الأميركي لإسرائيل بدءاً باعتراف إدارته بها ثم الذود عن عدوانها ومجازرها من جانب معظم الإدارات اللاحقة عدا إدارة الرئيس الجنرال ايزنهاور، ربما لأنه من نسيج الرئيسيْن الأهم عداه في تاريخ الرئاسة الأميركية وهما الأول جورج واشنطن الذي هو الرئيس المؤسس أو كما يسمونه «أبو الولايات المتحدة» والآخر الرئيس الثاني والثلاثون فرانكلين روزفلت. وما نقصده بالنسيج أن الثلاثة كانوا كما الملك عبدالعزيز لا يعانون عقدة القادة الذين لا أمجاد سابقة لهم ولا شرعيات محسومة لحكم كل منهم. ولولا تفادي الإطالة في الكلام للمناسبة التي نحن هنا نشارك فيها وهي الاحتفاء بالكتاب المرجع للدكتور فهد الحارثي» «المعرفة قوة..والحرية أيضاً»، لكانت الإفاضة في إلقاء الضوء على مجد كل من القادة الأربعة: جورج واشنطن. فرانكلين روزفلت. عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. داويت إيزنهاور ستؤكد لنا أهمية صِدق القرار عندما يصدر عن قائد صاحب مجد نضالي وفي مجال تأسيس الدولة.
والذي يلفت الانتباه في كتاب الدكتور فهد الحارثي أحد أفراد الكوكبة السوربونية في حقبة السبعينات أنه يأتي مواكباً حالة سعي حثيث لتنويع المعرفة في العالم العربي، عسى ولعلَّ تتراجع نتيجة ذلك الظواهر المقلقة والتي وصلت إلى حد التنظير الفقهي للعنف. وحالة السعي التي نشير إليها تتمثل في «جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية» التي تزامن افتتاحها مع الذكرى التاسعة والسبعين لليوم الوطني، وفيما شعب المملكة على موعد مع ذكرى البيعة للقائد الذي يصوغ رؤية متجددة للمجتمع تهدف إلى توسيع مدارك المعرفة لدى جيل الألفية الجديدة كي لا تلتف على مجتمعات هذا الجيل «فيروسات» موروثة من القرن الذي انقضى وازدهرت فيه صراعات وحالات من الاحتراب الأهلي ونماذج من التعصب السياسي والمذهبي أدى بحكم التراكم إلى حالة إحباط استشرت فبدت أحوال الأمة وكأنما هي في بداية عودة إلى الجاهلية.
وفي كتابه الجديد لا يكتفي الدكتور فهد الحارثي بتشخيص الحالة العربية عموماً توعكاً كانت أو بداية مرض يستوطن العقول والنفوس، وإنما نراه كما يشخَّص الداء وينصح بالدواء من وجهة نظره كأكاديمي عاش في رحاب العلوم والمعرفة في عاصمة النور باريس قبل أن يعود إلى المملكة للمساهمة مع كوكبة سبقته إلى الدراسة في جامعة القاهرة وكوكبة ثانية سبقته إلى الدراسة في جامعات أمريكا وبريطانيا. وفي هذا الإطار نراه ينتقد الذين «يُسبب الاختلاف والتعدد لهم عُسر الهضم والتشتت» ويرى «أن التنوع والتعدد هما الأفق الفسيح للحرية والإبداع، و»أن الانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج هو أول الطريق إلى الاستقلالية». كما نراه يرثي حال المبدعين من العلماء العرب الذين لا يعودون إلى ديار الأمة نتيجة تكبيل مواهبهم وإعاقة قدراتهم فضلاً عن أنه «لا ميزانيات ولا تجهيزات ولا مناخات للحرية ولا بيئات إنتاج تقدَّر أهمية ما يفعلون».
ومن جملة اعتراضات الدكتور فهد الحارثي في كتابه المرجع المدعم بالأرقام لإكساب الفكرة المزيد من المصداقية، اعتراضه على الابتعاث العشوائي. ويشعر كما نحن وكل من يتابع أحوال الأمة كيف أن الدولة العدوة إسرائيل التي تؤمن بأن الكلمة العليا هي دائماً للقوة بالعدوان وليست بالضرورة للحق والشرعية، تحتل المركز الأول من حيث جودة التعليم الجامعي وتتقدم على أوروبا وأميركا نفسها في الإنفاق على الفرد في مجال التعليم كما تحتل المركز الثالث عشر بين دول العالم في براءات الاختراع.
وكأننا بالدكتور فهد هنا يرثي حال الكم الهائل من الجامعات في العالم العربي التي تتكاثر من دون تخطيط وبالتالي فإنها لا تخرج الكفاءات العالية في حين أنها لو توحدت في بضع جامعات تهتم كل واحدة باختصاص معين لكان مردود المعرفة وفيراً.
أختم هذه الإطالة حول الكتاب الجديد للدكتور فهد الحارثي بالقول: إن هذا المثقف العربي المتميز شغوف بالريادة. ففي اختياره جامعة السوربون كان رائد كوكبة سعودية ترى طلب العلم في عاصمة النور. وفي قيادته لمجلة «اليمامة» كان رائداً في وضع المجلة الأسبوعية السياسية والاقتصادية والثقافية في مكانة مجلات مماثلة استحوذت القاهرة وبيروت على بريقها ورونقها. وعندما كُلف بإنشاء مؤسسة صحفية فإنه أجاد التأسيس وأدخل إلى عالم الصحافة السعودية صيغة الصحيفة الرشيقة حجماً ومضموناً ومن دون أن تقع الصحيفة الجديدة وهي «الوطن» في أشراك الإثارة وبذلك كان فهد الحارثي رائداً. وعندما مارس المسؤولية الرسمية عضواً في مجلس الشورى وكان مسكوناً بالسعي لإظهار الحيوية من جانب من يتم تعيينه في هذا المجلس. وفي المحطة التي ربما هي نهاية المطاف أثبت الدكتور فهد الحارثي حذاقة الريادة في مجال المركز الذي يهتم بالدراسات التي تشكل رافد معرفة بأحوال المجتمع لأهل القرار.
كذلك أختم متمنياً أن تزدهر المكتبة العربية بهذا النوع من المؤلفات البحثية الهادفة إلى التطوير كما هَدَف الدكتور فهد الحارثي من كتابه وإلى التنوير وتحصين الذات كما هدف الأخ السفير الأستاذ علي بن سعيد بن عواض عسيري من دراسته الموضوعية والجادة حول مكافحة الإرهاب ودور المملكة العربية السعودية في الحرب على هذه الآفة التي هي عدوة المعرفة والحرية. وكلاهما يتم إطلاقهما من دار النشر الرصينة إياها (الدار العربية للعلوم) مع ملاحظة أن كتاب السفير عسيري مترجم إلى العربية من اللغة الإنجليزية وأن الناشر الأساسي له كان جامعة اوكسفورد.
ومن محاسن الصدف وخير الكلام أن كتاب الأخ السفير يأتي متلازماً مع دعوة كريمة من جانب المملكة لأطراف المنازلة الكلامية الحادة في لبنان، عبَّر عنها سفير خادمة الحرمْين الشريفين وتتلخص في تشكيل لجنة لبنانية من الموالاة والمعارضة مهمتها وضْع تصوُّر منذ الآن لاحتواء إفرازات أي قرار سوف يصدر عن المحكمة الدولية بلبنان سلبياً كان أو إيجابياً وذلك لمنع انفلات الأمور والوصول إلى ما لا تحمد عقباه، موضحاً أن هذا الاقتراح هو من ضمن ما حمله الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما زار لبنان قبل شهرين ومعه الرئيس بشَّار الأسد ودعا الأشقاء اللبنانيين إلى اعتماد العقل والحكمة والحوار من أجل المصلحة الوطنية العليا.