قبل أسبوع عشتُ مفاجأة جميلة غير متوقعة: صديق لأخي اكتشف في مكتبة والده -التي ظلت مغلقة منذ توفي رحمه الله قبل عشر سنوات- ثلاثة كتب من مؤلفات والدي رحمه الله، عليها إهداء منه لي بخط يده وموقعة كهدية شخصية حين كنتُ على مقاعد الدراسة. حملها الصديق إلى أخي الذي بالتالي أوصلها إليَّ مشكوراً لأحتفي بها كهدية ثمينة لا تُعوض.
* منذ اكتشفت إحدى مدرساتي في أول ابتدائي «خصوصية» كراسة كتاباتي الطفولية مزينة برسومات خيال لا محدود بعقلانية الكبار واستعارتها مني لتقرأها.. ثم لم أر تلك الكراسة المتفردة مرة أخرى حتى يومنا هذا. وتعلمتُ أن من يتباهى بسطور كتبَها أو قرأها قد ينتهي بفقدها ويدفع الثمن حسرةً، وعلى نفسها جنتْ براقش..
* أعرف أن بعضنا يعشق القراءة إلى حد أن أول قائمة بالأماكن التي سيزورها في أي مدينة كبرى سيسافر إليها هي قائمة المكتبات المعروفة. وأعرف أن هناك مَن يشتكي صادقاً أنه لا يجد الوقت الكافي لكل ما يود أن يقرأ.. ومَن بالعكس يعلِّق كسلَه عن المتابعة بمسمار جحا شرعي حين يتعذر بأن مساحة الوقت المختزل لا تسمح بالقراءة. وأعلم أيضاً أن هناك من لا يقرأ وهو ليس أمياً، ومن يود أن يقرأ وهو لم يتعلم القراءة بعد. ومنا من لا يستطيع مقاومة الكتب المرغوبة حتى ليرتكب في سبيلها معصية السرقة.
* ومع الكتابة تعلمتُ أن للكلمات سحرها الغامض على القارئين.. وأن بعضهم يشده ليس الكلمات ذاتها بمعناها الواضح، بل يعشق التنبيش في ما يخاله يتخبأ قصداً بين السطور.. وأن هذا المتوقع بشغف أن يكتشف كامناً «ما بين السطور» قد لا يكون فعلاً موجوداً إلا في خيال الباحث عنه. وإن بعض الظن إثم وأن الحكم على النيات ليس للخلق.. بل للخالق فقط. ولكن القارئين لا يفقهون.
* لم أتساءل كيف وصلتْ كتبي إلى مكتبة الشيخ الجليل؟ فالمهم أنها عادت.
تذكرت وقتها ما كتبته مؤخراً الصديقة الإعلامية ميساء البيوني في صفحتها بالفيسبووك؛ عبارة تألم حزينة تشتكي فيها من فقد كتب عزيزة عليها يستعيرها آخرون منها ثم لا يعيدونها!! كثير من الأصدقاء تفاعل معها مشيراً إلى أنها تجربة مشتركة.. وأن بعض من يستعيرون الكتب يمارسون تساهيل ذاتية أنانية «وعود الليل يمحوها النهار...» أو أنهم يفتقدون الذمة أصلاً.
وهي لا شك تجربة تألم يشارك ميساء فيها كثيرون من محبي الكتب وأنا منهم. والفقد أعظم حين يكون الكتاب مرجعاً نادراً أو له قيمة معنوية خاصة كإهداء من المؤلف شخصياً.
ما زلت أذكر أن صديقة حميمة استعارتْ مني كتاباً نادراً جئتُ به من أمريكا، هو خلاصة بحث علمي يحتوي قائمة مستفيضة مصورة بالألوان لكل البهارات والأعشاب المعروفة عالمياً؛ يصفها ويصنف استعمالاتها وتأثيراتها, ويعطي الأسماء المعرفة لها في اللغات المختلفة مكتوبة بدءاً بالأصل اللاتيني وثم الأوروبية والشرقية والعربية.
لم ترجع الصديقة كتابي المرجعي ومرَّ أكثر من ثلاثة عقود من الفقد والتألم لأنني نسيت اسم الكتاب واسم مؤلفه وإن تذكرت موضوع محتواه.
صديقتي اليوم امرأة ملتزمة حد النقاب، آمل إن قرأتْ هذا المقال بقدرة قادر وتذكرتْ بقدرة قادر.. أن تعيد كتابي وتبرئ ذمتها.