هذه هي الحلقة الثالثة من التراجم التي اخترت لها عنواناً «من أعلام المجمعة» وهي تُعْنى بتراجم مِن لم يُتَرْجَم لهم، فالكتابة عن هذه الفئة التي أغفلتها كتب التراجم محفوف بكثير مِن المصاعب. ذلك أنّ أنباءهم تضاءلت مع تطاول السنين. وما كُتِب نزر قليل لا يشفي الغليل ولا يرسم صورة واضحة ملامح هذه الشخصية. فأخبارها وسيرها لم تُكتب لتبقى بل حُفِظت في الصدور فضاعت مع تطاول الأزمان والدهور، وانقراض الأجيال. وقد دعاني إلى تسطير هذه الترجمة للشيخ إبراهيم بن سيف أنّ أثره الماثل للأعيان قد أعيد ترميمه، فأصبح مسجده الذي بناه في حلة قشيبة وحالة مرضية. فقد نهدت أسر آل سيف بن عبد الله الشمري فتعاونت لتعيد لمسجد الشيخ إبراهيم حياته، فكان ذلك الترميم الشامل الذي طال المسجد ومرافقه. ولعلّ هذا المسجد يكون موئلاً للمصلين الذين يمرّون به، فيكون أجراً غير منقطع للشيخ إبراهيم - رحمه الله -.
إنّ للشيخ إبراهيم أخباراً ومآثر درست مع تقادم الدهر، فلم يبق لنا منها سوى مسجده وقصة انتقاله من المجمعة إلى المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. حفظتها المصادر التاريخية التي أبقت لنا ذكره.
نسبه وأسرته
هو إبراهيم بن عبد الله بن سيف بن عبد الله الويباري الشمري(1). وجده عبد الله هو الذي كان على يديه تأسيس بلدة المجمعة. واستطاع أن يجمع حوله من الناس اللباب. فنهضت بهم المجمعة واستطاعت أن تصبح من بلدان نجد التي يُشار لها بالبنان.
الحياة في المجمعة في زمنه
بُليت المجمعة في زمن الشيخ إبراهيم وقبله بالصراع على إمارة البلدة. والمجمعة ليست بدعاً في ذلك فكثير من البلدان النجدية كان ذلك ديدن أسرها. وكان النزاع في بلدة المجمعة قد أورث جواً مشحوناً بالخوف والترقُّب، وقد سبب ذلك الصراع شيئاً من النكوص عن التقدم والتطوّر والانتشار لبلدة المجمعة. ودليل ذلك أنه بمجرّد أن زال الصراع وانقضى تطوّرت المجمعة وتقدمت في النواحي العلمية والاقتصادية والسيادية(2).
كانت نجد التي تقبع المجمعة فيها تعيش صراعاً مريراً بين البلدان المتنافرة والطامحة والقبائل المتناحرة. فكان التنقل والترحال محفوفاً بمخاطر كبيرة. فسبَّب ذلك خوفاً دائماً، ووجلاً من السفر والانتقال. فضعفت الحياة الاقتصادية، وتردّت معيشة الناس. وكان طالب العلم لا يجد مؤسسة ترعاه وتعينه ليتفرّغ لطلب العلم. فكان يعتاش من بعض الأوقاف الهزيلة التي تُوْقف على أئمة المساجد ومعلِّمي الكتاتيب. أما القاضي فكان يعمد إلى أخذ ما تيسّر له من المتخاصمين(3) ليعتاش بهذا القليل. ولولا هذا المال القليل لما استطاع التفرُّغ لهذا العمل. ورغم تلك الأحوال المتردية فقد برز في المجمعة علماء مهّدوا السبيل لحياة علمية جيدة. من أبرزهم: الشيخ محمد بن عبد الله بن سلطان قاضي المجمعة المتوفى سنة 1099هـ(4).
أما في الحياة السياسية فقد برز الأمير حمد بن علي المتوفى سنة 1098هـ(5).
مولده
يغلب على الظن أنه وُلد في المجمعة. وهو استنتاج مبني على مكان إقامة أسرته. ومن العسير تحديد تاريخ مولده. ويمكن أن نسبحَ في لُجَّةِ التخمين فنقول: إنه قدم المدينة في عام 1110هـ أو عام 1115هـ (6) وكان معه ولده الشيخ عبد الله، الذي لم يترك المجمعة إلاّ وقد بلغ شرخ الشباب، وجد في طلب العلم ورحل يطلبه. فعمره قد جاوز العشرين وأشرف على الثلاثين. وكان يَعرف المجمعة ويخبُرُها، بل يُعِدُّ العُدَّة ليعود إليها مُحمّلا بالعلم وأحمال الكتب. وأخبر بذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب(7). فإذا كان بينه وبين والده في السن خمس وعشرون سنة فيكون عمر والده عند الانتقال إلى المدينة يزيد على الخمسين سنة. فيكون مولد الشيخ إبراهيم في حدود عام 1060هـ علماً بأنّ ابن أخ الشيخ إبراهيم الأمير حمد بن علي بن سيف قُتِل سنة 1098هـ(8) مما يوحي بأنه أصغر سناً من أخيه علي بن سيف.
نشأته وحياته
لا نعرف أي معلومة تهدينا السبيل في حديثنا عن نشأته وحياته، ونستطيع أن نخمّن أنه درس القرآن الكريم، وحفظ منه ما تيسّر له، وتعلّم القراءة والكتابة، ولعله ألمّ ببعض متون الفقه.
ويغلب على الظن أنه مارس الزراعة مثله مثل غيره من سكان الحواضر فهي النشاط الرئيس وعماد المعيشة.
وكانت حياته الأسرية شبيهة بغيره في ذلك الزمان. فهو قد تزوج ورزق أولاداً بقي لنا منهم ابنه الشيخ عبد الله، ولعله الوحيد الذي عاش من أولاده فتعلّق به. بل أظن أنه اهتم به وحرص على تنشئته النشأة الصالحة. وقد يكون انتقاله إلى المدينة رغبة منه في بقائه مع ولده، وتيسير طلب العلم له. وكانت حالته الاقتصادية جيدة بمقاييس ذلك العصر. فإنّ بيته الذي حوَّله إلى مسجدٍ يدل على سعة عيشه ونَظَارتِهِ. فالبيت واسعٌ وكبيرٌ وهذا يدل على يسار صاحبه وتوفر المال في يديه. بل إنّ تحويل بيته إلى مسجد يحتاج إلى نفقة، والاستغناء عن ثمنه وإيقاف بعض عقاراته على مسجده(9) وهو مقدم على الانتقال إلى مدينة أخرى يحتاج فيها إلى مال يشتري به منزلاً يؤويه ومزرعة يعتاش منها يدل على توفر المال معه، وأنه غير محتاج إلى ثمن عقاراته التي أوقفها وبيته الذي حوّله إلى مسجد. فهو لم يكن من أهل الحرف التي يُعتاش منها، وكانت الحرفتان اللتان يستطيع أن يمارسهما الزراعة والتجارة.
وليس لدينا علمٌ عن مدى مشاركته في الصراع الذي دار في المجمعة حول الإمارة، سواء بدعم آل سيف أو بالتوسط في الصلح بين المتنافسين من الفريقين. ولا يعدو حديثنا عن ذلك رجماً بالغيب.
انتقاله إلى المدينة
ذكر الأنصاري(10) أنّ المنتقل إلى المدينة ابنه عبد الله بن إبراهيم، ولم يشر إلى والده في هذا الانتقال. والمتواتر عند أهل المجمعة أنّ المنتقل هو الشيخ إبراهيم وليس ابنه عبد الله، وقد أيّد هذا التواتر ما ذكره ابن عيسى(11) والبسام(12)، بل إنّ المسجد يُسمى مسجد إبراهيم. وأظن الأنصاري نقل ما اشتهر وذاع ووصل إليه. فالابن هو العالم الذي ذاعت شهرته في المدينة وما حولها، فظن الأنصاري أنه هو القادم من نجد، ولعل أباه لم يعش طويلاً بعد انتقاله إلى المدينة، فاخترمته المنية وهو لم ينل شهرة ابنه عبد الله. فانصرف الذهن إلى هذا المشهور والمعروف في المدينة، فظُنَّ أنه أول مَن قَدِم من هذا البيت إلى المدينة واتخذها سكناً.
وكان ذلك الانتقال في عام 1110هـ وفي قراءة أخرى لمخطوطة التحفة 1115هـ(13) وهو فارق بسيط لا يقدم ولا يؤخر.
ويحق لنا أن نتساءل: لماذا انتقل إبراهيم بن سيف من المجمعة وهو من أعيان هذه البلدة ومن أهل اليسار فيها؟. إن ذلك يبدو غريباً. ومن وجهة نظري أنّ لذلك ثلاثة أسباب:
الأول: أنّ الشيخ إبراهيم عاين بذور الشقاق التي أثمرت نزاعاً لا هوادة فيه حول إمارة البلدة. وتحوّل الأمن النسبي إلى قتال دائم، وخوف مستمر. فتورّع عن الدخول في تلك النزاعات.
الثاني: وهو يعضد السبب الأول ويتسق معه. فابنه عبد الله نشأ نشأة صالحة، وأخذ في طلب العلم، وبرز في ذلك فرغب، في الرحلة إلى طلب العلم فكانت وجهته إلى المدينة المنورة، وكانت محطَّاً للعلماء وقصداً للزائرين منهم. فيسهُل لقاؤهم والأخذ عنهم. فوافق ذلك رغبة في نفس والده لترك المجمعة والابتعاد عن هذا الصراع.
الثالث: محبة الشيخ إبراهيم للعلم وأهله. فالمدينة كانت زاخرة بالعلماء سواء من أهلها أو الذين يفدون وقت الحج، فتتهيأ الفرصة للقاء بهم، والنَّهلُ من عُلومهم. إضافة إلى أنّ المدينة بها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
حياته في المدينة
لا تتوفر لدينا معلومات عن حياة الشيخ إبراهيم في المدينة والتي بدأت سنة 1110هـ وكان ابنه الشيخ عبد الله يسكن في ظاهر المدينة حينما درس على يديه الشيخ محمد بن عبد الوهاب(14)، وكذلك كانت مزرعته في ظاهر المدينة، فهل كان سكنُ أبيه في تلك المزرعة؟ إنه احتمال قوي، خاصة وأن كثيراً من الناس في ذلك الزمان يقيمون في مزارعهم. وكان الشيخ عبد الله مغرماً بالفلاحة محباً لها(15). وهو أمر غير مستغرب فهو ابن بيئة زراعية نشأ بين النخيل والزروع فسرى إليه ذلك الغرامُ بالزراعة والفلاحة من والده. وقد تكون مزرعة الشيخ عبد الله هي المزرعة التي قضى فيها أبوه بقية عمره في المدينة وورَّثها لابنه الشيخ عبد الله.
وفاته
لم نجد ما يدل أو يقودنا إلى استنتاج وفاة الشيخ إبراهيم، ونعرف أنّ ابنه الشيخ عبد الله توفي سنة 1140هـ(16) وما نستطيع أن نؤكده أنه توفي بعد سنة 1115هـ وعليه سمّي حفيده عالم الفرائض المشهور إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن سيف. وكان الناس في نجد لا يسمّون على الأحياء مِن أبائهم، فقد يكون الشيخ إبراهيم بن عبد الله سُمي على جده بعد وفاته. والشيخ إبراهيم أخذ العلم عن والده(17) المتوفى سنة 1140هـ فيكون مولده في حدود 1125هـ، فبهذا نستطيع أن نحصر وفاة الشيخ إبراهيم بين عام 1116هـ وعام 1124هـ.
ذرِّيته
لم يذكر ابن لعبون(18) من ولده غير عبد الله بن إبراهيم. وعبد الله هذا عالمٌ مشهور قال عنه ابن حميد(19): من أفاضل فقهاء نجد. أهـ وقال عنه الأنصاري(20): وكان رجلاً صالحاً لا نظير له في علم الفرائض، حتى كاد أن يكون زيد زمانه.اهـ
وقد رحل الشيخ عبد الله في طلب العلم إلى الشام، وأخذ عن الشيخ أبي المواهب شيخ الحنابلة بالشام(21)، كما أخذ عن شيوخ نجد ومنهم الشيخ فوزان بن نصر الله(22) نزيل حوطة سدير المتوفى 1149هـ. وأخذ عنه العلم خلق منهم الشيخ صالح الصايغ(23) من أهل عنيزة. والشيخ محمد بن عبد الوهاب 1115هـ - 1206هـ فقد ذكر المؤرخ عثمان بن بشر(24) عن الشيخ محمد: .. فلما وصلها (المدينة المنورة) وجد فيها الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف. وآل سيف رؤساء بلدة المجمعة .... فأخذ عنه. وقال له: أتريد أن أُريكَ سلاحاً أعددته للمجمعة؟ قلت نعم. فأدخلني منزلاً فيه كُتبٌ كثيرة.اهـ وهذا يدل على عزم الشيخ عبد الله الرجوع إلى المجمعة ولعل وفاته حالت دون ذلك. حيث توفي في سنة 1140هـ(25) وهو لم يبلغ سن الكهولة، وأظنه لم يتجاوز سن الخامسة والخمسين عند وفاته - رحمه الله -. فقد توفي شيخه فوزان بن نصر الله بعده بتسع سنوات(26). ومن عبد الله تفرق عقب الشيخ إبراهيم. وكان للشيخ عبد الله ثلاثةٌ من الولد، أكبرهم حسب ترتيب الأنصاري(27) محمد. وقد كان أسرعهم لحوقاً بوالده، حيث توفي في عام 1145هـ ثم نبراسهم الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن سيف الإمام الفرضي المشهور قال عنه الأنصاري(28): اشتغل بعلم الفرائض حتى فاق والده، وصار لا نظير له في المدينة بل في الدنيا. وتوفي في المدينة عام 1192هـ. وترجم له ابن حميد فقال(29): وانتهت إليه رياسة المذهب في الحجاز سيما علم الفرائض فإنه فيه لا يجارى ولا يبارى..... فكان يُرْحل إليه لأجله.اهـ وذكر أن وفاته كانت عام 1189هـ ويظهر لي أن الأنصاري أقرب للصواب فهو معاصر له زمناً وبلداً.
وكانت ذريته تعرف بالفرضي(30) نسبة لتمكنهم من علم الفرائض. فقد كان الشيخ عبد الله ثم من بعده ابنه الشيخ إبراهيم من علماء الفرائض، وكانت ذرية الشيخ إبراهيم من أهل الصلاح والتقوى. وتولوا وظيفة الأذان بالمسجد النبوي(31)، وتولوا مشيخة المؤذنين بالحرم النبوي(32) وهو منصب يدل على الوجاهة والرفعة المقترنة بالصلاح والنزاهة. وكان للشيخ إبراهيم بن عبد الله عدة أولاد(33) منهم: عبد الله كان من أهل العلم(34).
أما الابن الثالث للشيخ عبد الله فهو سعد(35) بن عبد الله وكان رجلاً صالحاً ولم يكن من أهل العلم. وتوفي في المدينة سنة 1193هـ فهو آخرهم وفاة. وكان له ابن اسمه محمد علي بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن سيف لم يكن من أهل العلم(35).
ولم يُقيّض الله لذرية الشيخ إبراهيم بن سيف انتشاراً في العَقِب كما قيض لها انتشار العلم والفضل، فتناقصوا حتى انقطعوا ودرجوا. وكان آخر من بقي من ذرية الشيخ إبراهيم امرأةٌ كانت عند بيت الزيتوني قبل نحو خمسين سنة. وقد أخبرني بذلك الدكتور الفاضل محمد التركي نزيل المدينة المنورة، والذي سأل وسعى لتعقب ذرية الشيخ إبراهيم فوصل إلى هذه النتيجة. وقد أخبرني حفظه الله ورعاه أنه حاول أن يتتبع أخبارهم في وظيفة الأذان من ناظر المؤذنين في الحرم المدني فوجد منه تحفظاً مبالغاً فيه لا معنى له.
فرحم الله الشيخ إبراهيم رحمة واسعة وجزى الله القائمين على ترميم مسجده خير الجزاء بما أحيوا من ذكراه.
******
الهوامش
1 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة 1-40، تاريخ بعض الحوادث في نجد 34، علماء نجد 1-134
2 - فصّلنا ذلك في مقال سبق وأن نُشر.
3 - الحياة العلمية في وسط الجزيرة العربية 353
4 - علماء نجد 6-195
5 - تاريخ المنقور 51
6 - تحفة المحبين 386
7 - عنوان المجد في تاريخ نجد 1-35
8 - تاريخ المنقور 51
9 - تاريخ بعض الحوادث 34
10 - تحفة المحبين 386
11 - تاريخ بعض الحوادث 34
12 - علماء نجد 6-7
13 - تحفة المحبين 386
14 - علماء نجد 4-8
15 - تحفة المحبين 387
16 - تحفة المحبين 386، علماء نجد 6-6
17 - علماء نجد 4-9
18 - تاريخ ابن لعبون 100
19 - السحب الوابلة 1-44، علماء نجد 4-7
20 - تحفة المحبين 386
21 - السحب الوابلة 1-44، فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي 3-1882
22 - علماء نجد 4-9
23 - السحب الوابلة 1-44، علماء نجد 4-9
24 - عنوان المجد 1-35
25 - تحفة المحبين 386، علماء نجد 6-7
26 - علماء نجد 5-387
27 - تحفة المحبين 387
28 - تحفة المحبين 387
29 - السحب الوابلة 1-41
30 - تحفة المحبين 386، السحب الوابلة 1-44، علماء نجد 4-14
31 - السحب الوابلة 1-44، علماء نجد 4-14
32 - أخبرني بذلك الدكتور محمد التركي وفقه الله
33 - تحفة المحبين 387
34 - علماء نجد 2-505
35 - تحفة المحبين 387