مرت سوق الإصدارات الأولية في المملكة بمرحلة طويلة من الانحراف والتشويه يمكن وصفها بحمى الاكتتابات، ويبدو أن الاكتتاب الأخير لشركة الخضري أنهى هذه المرحلة وأعاد السوق إلى وضعها الطبيعي. ولكي نلقي الضوء على تلك المرحلة لابد من العودة إلى التاريخ الحديث لتأسيس شركات المساهمة في المملكة وطرحها للاكتتاب.
فنظام الشركات الصادر عام 1385هـ كان يوجب صدور مرسوم ملكي للترخيص بتأسيس شركة المساهمة، ولم توافق وزارة التجارة على الرفع لاستصدار مراسيم الترخيص إلا لعدد محدود من الشركات خلال السنوات الخمسة عشرة التالية لصدور نظام الشركات.
ثم عُدل النظام عام 1402هـ بحيث أصبح الترخيص من صلاحيات وزير التجارة ما عدا الشركة ذات الامتياز والشركة التي تدير مرفقاً عاماً أو تزاول العمل المصرفي أو تقدم لها الدولة إعانة أو تشترك فيها.
ولكن هذا التعديل أخفق في تشجيع تأسيس شركات المساهمة بسبب القيود الصارمة التي فرضتها الوزارة في ذلك الوقت فكان لعامل الندرة دور مهم في إقبال الجمهور على الاكتتابات القليلة.
وقد مثل إنشاء هيئة السوق المالية فرصة جيدة لتيسير إجراءات الإدراج وإزالة التشوه الذي لحق بأسعار السوق الأولي، لاسيما وأن نظام السوق المالية لا يسمح للهيئة بالتدخل في طبيعة الاكتتاب ويلزمها بالموافقة على نشرة الإصدار إلا في حالات محددة ويُعفيها من أي مسؤولية عن محتوياتها، بل إن قرار رفض الاكتتاب يخضع للرقابة القضائية.
ولكن البدايات لم تكن مشجعة لأسباب عديدة من بينها نشوء الخلاف المشهور بين الهيئة ووزارة التجارة والصناعة.
من خصائص مرحلة حمى الاكتتابات الإقبال الكبير للجمهور على الاكتتاب بغض النظر عن جدوى الشركة حتى أصبحت طلبات الاكتتاب أضعاف الأسهم المطروحة مما ألجأ الجهة التنظيمية إلى جعل التخصيص يتناسب مع عدد أفراد عائلة المكتتب، وأصبحت الجهة التنظيمية تُعلن بنفسها عن الاكتتابات الجديدة وكأنها تزف البشرى للجمهور، مما فاقم حدة المفاهيم الخاطئة.
هذا الجو غير الطبيعي جعل سوق الإصدارات الأولية مغرياً ومضموناً وتحول إلى هدف للمستثمرين بدلاً من أن يكون مجرد وسيلة للإدراج، وتزاحمت عشرات الشركات للدخول إلى السوق وهنا عمدت الجهة التنظيمية إلى مُعالجة هذا الاندفاع بآليات لا تنسجم مع روح النظام و لوائح الهيئة ولا تتفق مع آليات الاقتصاد الحر، كتحديد جداول زمنية للاكتتابات.
وبعد الاكتتاب الأخير (شركة الخضري) الذي تميز بتغطية جميع طلبات الاكتتاب، نستطيع القول إننا على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل نضج السوق وتطوره، وهي مرحلة بحاجة إلى الدعم من خلال عدة إجراءات سنقترحها في مقال آخر إن شاء الله.