كان بي شغف بك يا بحر...
باتساع مداك.. وبهاء فضائك... وأمواجك التي تصطخب، فإذا بالمد يأتي وتتقافز معه السمكات الناحلات، حتى يكدن يقتربن من ملامسة كفوفنا الغضة، يوم كنا نلتقيك على شاطئك القمري في الشرق، أو شاطئك الأحمر في الغرب...، تمنحنا أسئلة غامضة، حتى بالكاد إن أدركنا لمحات من نواياها...
لا نتفكر في كنهك العميق، إذ لم نكن نعلم ما فيه إلا المحار، والأسماك، واللؤلؤ، والماء، والمرجان...، لكنها دوماً كانت تحدثنا عن جنيات البحر الطيبات، اللاتي كلما توقفتْ للبحارة سفنٌ، تقول، أخذت بأجنحتها تعينها على الإبحار، حتى كدت أن ألقي بنفسي ذات براءة فيك يا بحر، فالجنيات سوف يحملنني لحضن أمي، وهي، كثيراً ما كانت تنبش الرمل بأصابعها، وتسبح الله،...
البحر كان يمنحنا لحظات تأملية، في صفحة وجهها أمي، وهي تتلاقى به في صمتها، وفي نطقها، البحر مثلها، حين كانت، يصمت لحظات ثم يهدر لحظات، لكن هديرها، جيشان دمع ينبجس تعبيراً، أدركنا معناه عندما كبرنا، فقد كانت ترى الله في قدرة خلقه تعالى،...
أحببتك يا بحر، حين الشعراء الذين التهمت قصائدهم كأكواز الآيسكريم، كانوا يحبونك، فأنت خزينة أسرارهم، وأنت موجِّه مشاعرهم، وأنت حامل نبوءات قصيدهم، لفضاءات أرواحهم...
كنت يا بحر مصدر إلهامهم، وموطن طفولة هاجسهم، ومنتهى بلوغ أصواتهم، فمع موجك ستصل خيالاتهم، وإلى مواطئ مرافئك، ستُسَلم أماناتهم بك لمن غادروهم، فاشتاقوا لهم، ولمن هجروهم، فباعد الغياب بينهم، وشكلتَ حنينهم، ووسعت أمانيهم بانسياب مائك، واندماجه بنبضاتهم...
كنتَ جميلاً يا بحر، حتى كبرنا، وفوق شاطئك في الشارقة، مع ثلة من مبدعات الجزيرة العربية، وعند الغسق اقتربت منك أكثر...
هاجسني الخوف منكَ... إذ عرفتك،... عرفتك تماماً، أنت نقيض الإنسان الطيب...، فعندما تحتضن تُميت، وعندما تلفظ الحي منك يموت، وحين تأخذ الحي خارجك يموت، أنت تأخذ ولا تعطي بقدر ما يعطيك المكلومون، والحالمون، والشاكون، والهاربون لفسحتك، وحنوك الظاهري، فإنك لا تعطيهم غير نسمات ترطب صدورهم، ومنظراً يغسل عن عيونهم دواخلهم.. وتبقى تحتفظ بأسرارك، ولا تصادق الإنسان أبداً...، حتى وهو على جادة مراكبك، يمكن بغضبة منك تطويه فلا يعود...
أنت يا بحر تتضافر مع الريح ضد الإنسان...
قوة فيك لا يقواها الإنسان مهما أعمل عقله، وتخابث معك في نواياه، روّض شواطئك، وأرسى دعاماته، وسيّر مراكبه، وأطلق قذائفه، وغاص فيك وأخذ من خيراتك، لكنك بهدوء، طويلٌ نفسُك...،
تتعاقبك الليالي والأيام دون أن تهتز لبكاء فقيد فيك،...
أنت نعم، آية من آيات الخالق فوق الأرض، وما فيك أدلة عظمته تعالى، تماماً كما إن الإنسان آية من آيات الله فوق الأرض، بمثل ما إن الأرض ذاتها كما السماء فوقها من آياته تعالى..، لكنك بصفاتك لا تؤتمن...
فأنت والريح تدمران الإنسان..، ولك غضبة تشردهم، وهجمة تسحقهم...
تذكرت ذلك الغموض الذي كان يهيمن علي في البراءة حين لثغ اسمك، وعرفت أنه بقي نقطة مرتكنة في عمقي حتى اغتلت ابن خالتي، وهو يودعك نفسه في حميمية غوص بين كفيك...، وإلى أن دمرت مرابع ومدن... وبالأمس زحفت على شواطئك الآسيوية، فتوهت أكثر من خمسمئة أندونيسياً، ومات أكثر من مائة منهم، والنساء يسبَحن بين مياهك يبحثن عن بقايا أمل في نبضة ربما لا تزال في صدر شاهق بالحياة من ضحايا «تسونامي» الجديد... وأنت البحر الهائج الزاحف الممتد...
يا بحر بيني وبينك أسئلة... ووهج إحساس...
لكنك تبقى في النهاية بيد الرحمن مسيَرة أمواجك، ماضية في انسيابها دون أن تنفد إلى متى شاء الله لك أن تستقر.. كما كل شيء من خلق الله، في كونه العظيم... لا تسكن ولا تتحرك إلا بإذنه سبحانه... ونبقى بشراً لنا مع خلقه حوارات وشتى...!