قضية المَسِّ، ودخول الجن جسدَ الإنسان، والتحكم في تصرفاته، وتوجيهه، ثارت مؤخراً بعد الأنباء التي تسربت عن القاضي الذي قال (راقيه) إنه لا يتصرف بمحض إرادته، وإنما بتوجيه من الجني الذي تَلَبَّسه، كما نُشرَ في جريدة (عكاظ).. القضية - حسب بيان مجلس القضاء الأعلى - هي الآن محل تفتيش وتحقق وتمحيص؛ ونحن ننتظر التوضيح ونتمنى أن يأتي سريعاً.
الإيمان بالجن جزءٌ من التصديق بالقرآن؛ ومن أنكر شيئاً من القرآن فقد أنكره بالكلية؛ وهذا أمر لا نقاش فيه إطلاقاً. ولكن الإيمان بالجن كمخلوقات شيء، وأن تؤمن بالمس ودخول الجن في الإنسان شيء آخر. الإيمان بالجن لا يعني بالضرورة أن تؤمن بقدرة هذه المخلوقات المغايرة للجنس البشري، على الدخول في جسد الإنسان، والتحكم في تصرفاته، وتوجيهه، أو الاتصال بالبشر، والاستفادة من قدرات الجن الخارقة في نفع أو ضرر بني البشر كما يدعي بعض الخرافيين؛ فالمس برمته هو محل خلاف بين العلماء.
يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: (من زعم أنه رأى جنياً أبطلنا شهاداته إلا أن يكون نبياً)؛ أي أن التعامل مع الجن ومشاهدتهم قصراً على الأنبياء. ويقول الإمام ابن حزم - رحمه الله - في الرسائل: (وأما كلام الشيطان على لسان المصروع فهذا من مخاريق العزَّامين، ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام، فكيف صار لسانه لسان الشيطان؛ إن هذا لتخليط ما شئت، وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها، كما قال الله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}. (سورة الناس الآية 5)، فهذا هو فعل الشيطان فقط. وأما أن يتكلم على لسان أحد فحمق عتيق وجنون ظاهر؛ فنعوذ بالله من الخذلان والتصديق بالخرافات). ويقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق - رحمه الله - في الفتاوى: (قد تغلّبَ الوهمُ على الناس، ودرَجَ المشعوذون في كل العصور على التلبيس، وعلى غرس هذه الأوهام في نفوس الناس، استغلوا بها ضعاف العقول والإيمان، ووضعوا في نفوسهم أن الجن يلبس جسم الإنسان، وأن لهم قدرة على استخراجه، ومن ذلك كانت بدعة الزار، وكانت حفلاته الساخرة المزرية، ووضعوا في نفوسهم أن لهم القدرة على استخدام الجن في الحب والبغض، والزواج، والطلاق، وجلب الخير ودفع الشر، وبذلك كانت «التحويطة والمندل وخاتم سليمان « وقد ساعدهم على ذلك طائفة من المتسمين بالعلم والدين، وأيدوهم بحكايات وقصص موضوعة، أفسدوا بها حياة الناس، وصرفوهم عن السنن الطبيعية في العلم والعمل، عن الجد النافع المفيد. وجدير بالناس أن يشتغلوا بما يعنيهم، وبما ينفعهم في دينهم ودنياهم. جدير بهم أن لا يجعلوا لدجل المشعوذين سبيلاً إلى قلوبهم، فليحاربوهم وليطاردوهم حتى يطهر المجتمع منهم، وليعرفوا ما أوجب الله عليهم معرفته مما يفتح لهم أبواب الخير والسعادة). ويقول الشيخ الألباني -رحمه الله: (ولا أعلمُ دليلاً شرعياً يثبت وقوع كلام الجني على لسان الإنسي).
ثم أننا إذا سلمنا - على سبيل المجاراة -بإمكانية المس فإن كل المجرمين سيدَّعون أن الذي دعاهم إلى ارتكاب جرائمهم (جني)؛ وبالتالي فإن محاكمتهم على جرائمهم مثل أن تحاكم شخصٌ على جريمة ارتكبها غيره؛ ولن يقوم بعد ذلك للعدالة قائمة.
أعرف أن هناك كثيرين رأوا بعض الظواهر التي هي في رأيهم تثبت أن المس حقيقة. غير أن مثل هذه المشاهد والتهيؤات لها عند المختصين النفسيين تفسيرات علمية تعتمد على التجربة والبرهان العلمي. وأتمنى أن يُسهم أحد هؤلاء المتخصصين في إثراء النقاش، وتبيان حقيقة مثل هذه الظواهر. ثم لو أننا اعتبرنا المشاهدة الحسية دليلاً على الحقيقة فإننا يجب أن نصدق - أيضاً - بخرافات بعض الصوفية، تلك التي يسمونها (كرامات)؛ الكرامات المزعومة عند الصوفية هي - أيضاً - مُشاهدة، فإذا رفضتها على أنها خرافة، فلا يمكنك أن تقبل مشاهد ما يُسمى بالمس؛ فهذه وتلك في النتيجة والتحليل سواء. ومن قال غير ذلك فهو مُختل المنطق.
إلى اللقاء.