عرفت الساحة الأدبية الدكتور عماد حسيب ناقداً متميزاً بأبحاثه ودراساته المتميزة، وشاعراً من طراز فريد، صنع لنفسه درباً خاصاً، اتجاهه عكس جل اتجاهات الدروب، فهو لا يقلّد أحداً، ولا يقتفى أثر أحد، بعيد كل البعد عن تهويمات الحداثة وغموضها الذي يتشبث به أنصاف الموهوبين، وبعيد كل البعد عن البساطة المخلة التي يسعى خلفها الكثيرون ممن يرغبون في سماع دوي تصفيق العامة. وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على أن مفهوم عماد حسيب عن الشعر يختلف كثيراً عن مفهوم بعض أبناء جيله، ومتطلبات الشعر عنده تختلف عمّا يعتمد عليه الآخرون.
فالشاعر له معجمه اللغوي الخاص المرتبط بالقرآن الكريم ارتباطاً ملحوظاً. فقارئ الديوان تجذبه العناوين «وقالت نمله - عجلت إليك - هيت لك - ونخرجهم تارة أخرى - يحسبه الظمآن «والجمل القرآنية« طغوا في البلاد - سم الخياط - اذهب وربك قاتلا - قيل من راق «، والمرتبط - أيضاً - بالشعر العربي القديم «وفيت وفي بعض الوفاء مذلة - إذا ضاق الزمان عليك فاصبر»، وهو معجم يتخطى حدود التناص بنوعيه؛ فهو منسوج مع مفردات حداثية نسجاً رقيقاً يعانق فيه التاريخي والديني اليومي والسياسي والوطني، ليبرز وعي الشاعر الاجتماعي والسياسي والقومي، وحرصه على الهوية العربية الإسلامية.
وله معجمه التصويري المتميز برفضه للصور المستهلكة، فهو يقول «تعريت من ذكريات الكآبة - تفجر من قلبي الأفعوان - لزماننا باب يذوب حديده في موقد الثلج - ألملم الأحلام عظماً «، وهي صور يتعدى دورها دور التزيين إلى إبراز المعنى ومنحه أبعاداً أكثر وأعمق.
كما أنه يتميّز بقدرته على إلباس قصائده رداء درامياً، بالنسق القائم على التساؤلات المباشرة وغير المباشرة، والحوارات الممتدة التي يزاوج فيها بين عبق الماضي وجمال الحاضر، جاعلاً القصيدة حالة تفهم من خلال نظرة كلية شمولية.
إذا كان الدكتور عماد حسيب متميزاً بين أبناء جيله بامتلاكه لموهبة متميزة، وحس رقيق, ومعجم شعري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فإنه لا يختلف عنهم في الشعور بالألم ومرارة المعاناة، والعيش في وسط أتون القهر في مجتمع مكروه، لذا نرى ثيمة الاغتراب هي الثيمة الطاغية على إبداعه.
والاغتراب عند عماد حسيب نوعان: الأول اغتراب ذاتي يعاني منه الشاعر والأديب في زمان مات فيه المثقف والمطهر «وصار الخادم المهجو فينا - بفعل الرشوة القاضي المظفر - وأرباب البيان ملثمون - قناع مخافة والكل أبتر».
وهو اغتراب نلمسه في رومانسيات الشاعر - التي لا يعدمها الديوان - المشكلة أفقاً مفتوحاً على الحب والعشق والشوق والجمال بموسيقاها، وصورها، وعذوبة لفظها.
والنوع الثاني اغتراب الإنسان بالمفهوم الواسع لكلمة إنسان، فهو كإنسان يعاني من «وطن يهتز على أوردة الدال - ويفيق على أطراف الميم - وطن يغتال حروف الحب - ويسقط بين حروف الجيم الحاء الياء الميم»، يعاني من انهيارنا على كافة المستويات وتقوقعنا داخل شرنقة الشهوات في وقت يزداد فيه أعداؤنا قوة وطغيانا «نساؤنا متعلقات بالفراغ الوهم - ورجالنا سكنوا الهزيمة - واستوى في دمع عينيهم سؤال - أين الرجال» في زمن تتساوى فيه الخصوبة والتصحر، والخير والشر، والصدق والكذب، والحق والباطل.
وللنوعين أثر كبير على الشاعر فقد افقداه الرغبة في الحياة، وسلبا من نفسه التفاؤل والنظر للحياة بمنظار الأمل؛ فقد أصبحنا كغثاء السيل» وكل العناتر صارت تضفر شعر النساء» , و «صهيلنا في الحرب أشبه بالخرير»، لذا نسمعه يصرخ «الآن لا آن ولا منذ ولا كان»، «إني خائف من ذكرياتي - أن تموت على الجدار «فهي الباقي له - لنا في زمن الضياع.
لم يحفل عماد حسيب بالاغتراب الذاتي مثلما اهتم بالاغتراب الجمعي فهو, يأخذنا إلى بؤرة قلبه المتوجع بوجع الوطن، لذا أرى في عنوانه «قراءات في زوايا معتمة» اهتمام بالجماعة، وأشعر بأنه قرأ همي، وهم إخواني، أرى نفسي في قصائده، وأنفس إخواني, أرى ضعفي وضعفهم، أرى ضيقي بالاغتراب، وضيقهم. وفي إصراره على أن تفوح رائحة الاغتراب حتى في رومانسياته رغبة في تأكيد هذا الاهتمام، وأنه واحد من الجماعة, أحاسيسه نابعة من معاناتها. لقد نجح الدكتور عماد حسيب في تحقيق المعادلة الصعبة (التجديد بلا غموض)، وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدل على امتلاكه لزمام الإبداع في نفسه، ولا عجب في ذلك فهو حفيد صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل.
د. أبو المعاطي الرمادي -كلية الآداب جامعة الملك سعود