من المفارقات التي تستوقفني، وإيقاع الحياة المعاصرة في المجتمع من حولنا, وهي تأخذ بتلابيب كلِّ مستحدث، والناس في شؤونها منهمكون, جادّون، ولاهثون، حتى يخيّل لك أنهم لا يملكون من الوقت ما يروّحون فيه عن أنفسهم، فهم فاعلون، أو مدَّعون تطويراً للذات, ولمستوى المعيشة، وللسلوك العام، ولأنماط التفكير, والتعايش، وضمنياً، قد استجدّ فيهم أمرٌ يتعلّق بكل هذا في حياتهم، هذا المستجد ليس أصلاً بل ظاهرة، تبدو في سلوك تعبيري ساخر، ينمُّ في تشكيلته عن نبض نافر في دواخلهم، تسمعه في النكات التي ارتفعت بها الأصوات، وخرجت بهم عن الصمت، وغدت رسائل يتداولونها في هواتفهم، ومحض إسعاد وضحكات في مجالسهم، ولم يعودوا يقولونها على استحياء، أو يدوّنونها فوق الجدران المغلقة, في دورات محطات السفر، أو طرقات البر الطويلة، أو في الحواري والمنعطفات، إذْ انتشرت، وكثرت, وأصبح من الممكن أن تصنّف حسب موضوعاتها, فهي من قبل كانت تدور بين الخاصة، وفي موضوعات طريفة، بعضها بريء، وبعض منها لا يجرأون على نطقه جهراً.., قضي على البراءة فيها، إذْ هي من جانب لسان إيصال ما يُراد منها، ومن جانب آخر، قد تمادوا بها، فغدت الجرأة ذات سقف مرتفع في وضح المعلن، إذ رفع اللثام عن العيب في مفهوم التأدُّب والحياء، وتمرّدت عليه القناعات بأنه قيد من حرية ما..
ليس هذا محور ما أودّ مما أقول عن انتشار النكتة أو الطرفة، على أنها واحدة من أساليب التعبير، في ضوء المفارقة المفارقة، حين الكتابة عنها, وتدوينها, ورصدها، وتسجيلها, من الوسائل التي تقدم دلالات عن تغيّر إنسان المجتمع في جوانب, وتكشف عنها مضامينها, وزمنها, وشخوصها, والأحداث ذات العلاقة بها، كأحد أهم الوسائل, لمعرفة تطوّرات الوعي، والإدراك، والمبادرة، والتفاعل، والقبول, والرفض, والرضا, والسخط، والإعجاب، والامتعاض, من كلِّ شاردة في حياة إنسان المجتمع, فرداً أو جماعة.., مما يؤرِّخ عن التفاعل مع الجديد, والمستحدث، وما لا يخضع له من هم يشعرون بتقلُّص أدوارهم, أو مزاحمتها، على وجهيْ القبول، والرّفض.., فقد أصبحت موجودة كأحد أوسع أساليب التعبير العام...
إنّ المجتمعات البشرية على مرور الأزمنة, في آدابها هناك سجل للنكات, والدعابات, والطرائف, التي هي مادة خصبة لدراسة تقلُّبات الحياة, ومدى ما ينعكس مع ريحها، في مفاهيم الناس، ومواكبتهم لها, أو تجاوزها...
ودواوين العرب الأدبية وتراثهم ثري بها، مع اختلاف حاجات الحقب, في استخدام إنسانها لهذا النمط من التعبير..
الذي أتمناه، أن يبقى الوقار, أحد أهم دعامات السلوك العام, وهو سمة من الحياء الذي هو شعبة من الإيمان.., عسى ألاّ تتقوّض مظلّته والناس تُعلي من مظلات أخر..