تاريخ الإنسانية في حقيقته هو تاريخ الظلم، لأن الظلم من شيم النفوس، كما عبًر عنه المتنبي، (والظلم من شيم النفوس،،،، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم)، فطبيعة الحياة هي الغلبة والاستئثار والانحياز والأنانية في مختلف أوجه علاقات الإنسان الاجتماعية والسياسية والعلمية والاقتصادية.
ومثال ذلك في هذا العصر تلك العلاقة بين المنتج والمستهلك، والتي لا يحكمها منطق العدل، ولكن تحكمها عوامل أخرى، يكون طابعها في الغالب هو الظلم، فكثرة عرض المنتجات على سبيل المثال تؤدي إلى ظلم المنتج وخسارته، وفي ندرتها أيضاً ظلم للمستهلك، كذلك هو الحال في ذلك البدوي الذي يسكن قلب الصحراء، ولا يملك القدرة عن الذود عن داره، وكما عبر عنه حكيم العرب زهير بن أبي سلمى: (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم )...
لازلت أعجب من تلك الفطنة العربية التي أقرت، قبل تاريخ الحداثة وما بعد الحداثة، أن طبيعة الإنسان هي الغلبة والظلم، برغم من اشتهار العرب بمكارم الأخلاق، وأن المرء عليه أن يذود عن حوضه بسلاحه، وإلا كان الظلم نصيبه،..وفي ذلك ترسيخ لحقيقة أن المجتمعات لا تخضعها الأخلاق والوعظ والفضيلة والآداب العامة، ولكن تهيمن عليها نزعات الظلم والظلم المضاد..
في تاريخ العرب المسلمين انتصرت شيمة الظلم مبكراً على منطق الأخلاق والعدل، إذ انتهى الأمر إلى تكالب قوى الظلم على صوت العدل ثم إنهائه وتصفيته، ولعل خير مثال عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، والذي اجتهد في أن يكون العدل في قراراته وأفعاله، فتمت تصفيته بعد عامين كما تحدث التاريخ، ليعود المجتمع العربي الإسلامي إلى طبيعة الحكم من خلال آلية العسف والظلم، وتلك الطبيعة لا يختص بها تاريخ المسلمين ولكن يشترك فيها العالم، لكن الاختلاف أن الآخرين وصلوا لقناعة الحد من طبيعة ظلم النفوس، بينما لم يصل العرب بعد إلى تلك القناعة ..
تختلف درجات الظلم من إنسان إلى آخر، وعادة يحكمها عدة عوامل، منها النفوذ والعصبية والجاه والغنى والفقر، وتختلف درجات الظلم من إنسان إلى آخر، وتوجد قلة من الناس يتعففون عن ظلم الآخرين، وينأون عن التدافع في الحصول على المنافع مع الآخرين، ليختاروا الزهد في الحياة الدنيا، وأولئك ندرة لا يغيرون من الواقع شيئاً، لأن الإنسان خُلق في كَبَد ومعاناة، وفي مكابدة أهوائه ومطامعه في الحياة (لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، فالقناعة وهم تكذبه نزعة الإنسان إلى الاستبداد والسلطة والملكية المطلقة، ولا تجدي المواعظ ومثاليات القدوة الحسنه، ولا بد إيجاد حلول لردع تلك الملكة الإنسانية، ولا بديل من قانون يسمو بقوة فوق الجميع..
مثال ذلك، عملت إدارة المرور على تقديم النصح والإرشادات عن السرعة والقيادة المتهورة منذ عقود، وكانت النتيجة دائماً أسوأ، وأن يستمر حكم الشوارع بشيمة ظلم الآخرين، إلى أن تم تطبيق نظام (ساهر)، والذي يمثل قوة أعلى من ظلم البشر وتعسفهم، لكن نجاحه سيرتبط بتطبيقه على الناس سواسية وذلك من أجل استقامة قيادة السيارة في الشوارع العامة، لكن في حالة حدوث استثناءات سيكون نظام (ساهر) نظام لتقنين الظلم، يسمح بتجاوز ناس عن آخرين..
تعاني دول العالم الثالث من تقنين سلطة الظلم، والذي بكلمات أخرى يعني ضعف آلية القانون أمام سلطة الاستثناءات، التي تعمل من أجل احتكار شيمة الظلم لفئات محدده، وتمنع في المقابل بقوة القانون ردة الظلم المضاد، مما يجعل من مجتمعاتهم غير مستقرة، لأن ردة الفعل، وإن تأخرت، تظهر في صور مختلفة، منها عدم الرضا وكثرة التذمر وعدم الإنتاجية والفشل التنموي..
لا تجدي عادة حلول الإمام العادل الذي تختزل حكمته ورؤيته مختلف الحلول لمختلف مشكلات الناس، لأن طبيعة الإنسان هي الظلم مهما تظاهر بالدفاع عن حقوق المستضعفين، لذلك لا حل إلا بإيجاد قوة أعلى عن مختلف درجات الظلم، تتمثل في آلية صارمة لتطبيق القانون ضد شيمة الظلم عند الناس، على أن يكونوا جميعاً تحت سقف مساواة لا يسمح باستثناءات على الإطلاق..