ربما كانت هي مواجهتَه الأولى مع حقيقة تواري الشخص والنص معًا في لحظة حزينة؛ فقد فجعنا - في عامنا الجامعي الثاني- بوفاة الأستاذ الكبير (محمد سيد نصر) أحد أبرز أعلام «الجغرافيا» العرب؛ مَنْ يعرفه معظمُنا مشاركًا في إعداد الأطلس «الأخضر» الأشهر الذي لا يزال سيدَ الأطالس «الشعبية» حتى اليوم، وكان رئيسًا لقسم الجغرافيا في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام؛ حيث درجنا وتخرجنا، والموت مفاجأة وفاجعةٌ في آن، لكنه الجزء الأول من الحكاية.
أمام «الجامع الكبير في الديرة - كما كانا يسميان - موعدٌ لا نُخلفُه في أصيل معظم الأيام، وبعد ظهيرة كلِ جمعة؛ حيث الكتبُ النادرةُ تباع على الأرض؛ فنقتني منها ما نشاء بأثمانٍ معقولة تتناسبُ مع مكافأة الكلية المتواضعة، وهنا كانت الحلقة الثانية للحكاية؛ حين وجد التلميذُ كتبَ أستاذِه - عليه رحمة الله - معروضةً للبيع بخطه الأنيق وتعليقاته الممتلئة واستشهاداته التي كان يُبَطِن بها الأغلفة ويهمش بها الحواشي، وفيها شِعرٌ وأمثال واقتباسات، ولم تأذن الحال بشراء الجميع؛ فاختار بعضًا، وتحسر على بعضٍ، ولا يزالُ لديه جزءٌ مما ابتاعه منها، ولو عاد به الزمن لما ترك منها شيئا.
هكذا؛ دُفن الرجلُ ولحقه إرثُه، ومضيا: شخصًا ونصًا، ومضينا لشؤوننا دون أن ندرك كمَ الحسرة والخسارة التي يؤول إليها الميراثُ الإنساني بغيابٍ واقعٍ ومتوقع، وما الذي كانت ستضيفه دراهم معدودة لوارثٍ ومُطالب؟ وكم كانت ستضيف لعلمٍ وتأريخ؟ لكنه الأمر يُقضى حين تغيب المعايير.
محمد سيد نصر هو كل رمزٍ ثقافي يهمل نفسَه ويهمله الأدنَوْن منه، ولا يأبه به الأبعدون، وهنا تكتمل جناية اليوم وتجاهلُ الغد وضياعُ التأريخ، ولو أتيحت مكتبة الأستاذ «نصر» لقُرئَت فيها حواشٍ وهوامشُ وتعليقاتً تفصح عن ثقافةٍ شفاهيةٍ قدرُها الاختباء في أرشيفات ذويها لتحترقَ برحيلهم.
ينطفئُ الرمز الشخص فتغيب الذاكرة النص ونتداعى في بكائيات على ما فرط منهم أو منا؛ إذ لم نوثقْ نتاجهم، ولم نعتنِ بمكتباتهم وكتاباتهم، وربما اختلف من خَلَفهم؛ فقرروا بالنيابة ما يجوزُ نشره وما لا يجوز، وما ينبغي حفظه وما لا بد من إتلافه، ولو وعى السلف نوايا الخلف لتولوا أمورَهم بأنفسهم ورحلوا إلى ربهم وهم مطمئنون.
في الجانب الآخر تضيق مكتبات الجامعات والمراكز الثقافية والتاريخية والإدارية بما لديها من أوعية معلوماتية فلا تستطيع إضافة المزيد (وكثير منه مكرور أو لا يدخل في اختصاصاتها فلا لوم عليها كما لا طاقة لها بنشر المخطوط)؛ ما يضاعف أعباءَ ذوي الشأن في الكيفية التي يتولون يها آثار المبدعين والرسميين المهمين، وربما كانت المكتباتُ المدرسية (ومكتباتُ الأحياء لو وجدت) حلاً لمن خشي أن تمضيَ مكتبته التي أمضى عمرَه في جمعها مرتهنةً في غرفة مغلقةٍ أو صناديق مبعثرة، وفيها المخطوط والمصور والنادر والمخاطبات والقرارات؛ ما تجيء دلالاتُها مشيرة وربما مثيرة.
** حدث صديقٌ عن قريبٍ له رآه وقد أوقد ناره وأدنى أوراقه وراح يرمي الأكثر في اللهب ويحتفظ بالأقل، وهو شاعر مُجيد ذو سلوكٍ مَجيد، وعَرف أنه حُكمُ الفناء في لحظة إحساسٍ بعدم الجدوى، وهذا أهونُ ممن يمضي إلى ربه فيصدرُ القرار الجائر بالنيابةِ عنه من أولاده، وهذه أمثلة لجناياتنا الخاصة في حق التاريخ العام.
حكاية يعانيها الفرد والمجموع، ويئنُ منها تراثنا المرئي والمسموع الذي ضاع ويضيع معظمُه، ويبقى تاريخُنا الشفاهي للفرد والمكان والمؤسسة بحاجةٍ إلى التفاتة عاجلة؛ كيلا يحكي مَنْ ليس له الحق، ويتحكم من لا يستحق بمن يستحق؛ فتضيع الحقيقة وتُشوه الوثيقة.
التاريخ ملكية عامة.