من الخصوصية السعودية أن ينهار ثالث ثلاثة نواقل جوية في سماء السعودية بصمت اجتماعي واقتصادي مخيف يكشف عن مدى هشاشة إدراك الإعلام الاقتصادي السعودي لمجريات اقتصاد بلاده، ويفضح ضعف المسئولية في المجتمع الاقتصادي وتفككه وأنانيته.. هذا الصمت هو بقايا صدى آثار التخطيط الاقتصادي المركزي الذي تعمل البلاد على التخلص منه تدريجياً في شتى مجالات الطفرة الاقتصادية الحالية.
تعاملت الجهة الحكومية المسئولة مع الناقل الجوي الوطني عن طريق الجمع بين أسوأ ما في التخطيط المركزي مع أشد صور نظريات حرية السوق راديكالية، في خلطة مركبة تُجهز على أي منظمة اقتصادية مهما كانت ناجحة.
فمن بقايا التخطيط المركزي لاقتصاد البلاد: ما زالت أسعار وقود الطائرات هي الأغلى في المنطقة (17% أعلى من دول الخليج، ولعل سبب هذا يعود لعدم الرغبة في جعل المطارات السعودية نقطة وصل للطيران العالمي).. وما زالت الخطوط السعودية تحظى بتخفيض 90% من أسعار الوقود للنقل المحلي والدولي.. وما زالت أسعار التذاكر للمحطات المحلية مقيدة بسقف سعر لا يعترف بوقت ذروة ولا بمحطة نائية، وفي هذا إضرار بالمواطن الضعيف.. وفرضت الرحلات الإجبارية على الخطوط المحلية ولفترات طويلة - قبل انسحاب (ناس) وسقوط (سما) - دون إي إعانة، بل على العكس فقد تجد أسعار الوقود مضاعفة في تلك المحطات الإجبارية النائية عن مثيلاتها في السعودية (كالقيصومة مثلاً).. ولا تزال الخدمات الأرضية محتكرة من جهتين أو ثلاث قبل التوصل فيما بينهم لخلق شركة واحدة لتحتكر السوق بأكمله، وهي التي تسعى الآن لرفع أجورها 40%، كما فعلت سلطات الطيران المدني عندما زادت رسومها بما يعادل 30% بمجرد إعطاء رخصة للطيران الوطني الخاص.. ومن التدخل الحكومي في سوق الطيران إلى تبني مبدأ حرية السوق وعدم التدخل فيه مطلقاً: فتجد الطيران الوطني الخاص يدفع كامل كلفة الوقود المرتفعة، فرحلة واحدة من الرياض إلى حائل (أنجح خط محلي، لذا فالرحلة تكون مليئة بالركاب) تكلفتها 29.000 ريال، ودخلها 20.000 ريال فقط! يذهب كله (ككلفة مباشرة) للوقود وللشركات المحتكرة للمطارات السعودية!.
ما كانت (سما).. (وهي تُشكِّل ثلث سوق الطيران المحلي) لتسقط في أمريكا دون أن يتدخل البيت الأبيض والكونجرس لإنقاذها، فهذا من واجبات الحكومات، لذا فقد صدر مرسوم ملكي برقم 155 وتاريخ 16-5-1430هـ أن تعامل (سما) و(ناس) كالخطوط السعودية في إعانة الوقود في الرحلات الداخلية فقط لمدة ستة أشهر، توضع خلالها «حلول نهائية».. ومضت الستة الأشهر وعاد الحال كما كان دون وضع حلول نهائية حتى سقطت (سما)، فهل نصمت حتى تنهار (ناس) ويُقضى على مبادرة الطيران الخاص في السعودية لعقود قادمة.. والمقال فقط للإشارة ولا يحتمل التفصيل، لذا فسأكتب -إن شاء ربنا- في الأسبوع المقبل في القسم الاقتصادي بجريدة الجزيرة عرضاً كاملاً للأرقام والحقائق مدعمة بالتحليل الاقتصادي الذي يمليه منطق الأرقام.
لا يُشك لحظة في إخلاص ووطنية كل من له علاقة بهذه المسألة، ولكن من خبرتي في التعامل مع اللجان الحكومية أن تأخُّر الحلول وتعطُّلها يعود في غالبه بسبب عدم فهم أصل المشكلة.. والذي يقرأ الملابسات والمعطيات في مسألة التعامل مع معضلة الطيران الخاص يُدرك أن المسكوت عنه فيها هو أصل المشكلة.. حيث يبدو أنه كان هناك تصور في البداية على أن هاتين الشركتين هما دجاجتان تبيضان ذهباً، فصُممت إجراءات التعامل معهما بحيث تُستغلان استغلالاً يضمن تحقيق موارد لميزانية الدولة يعوِّض جزءاً من دعمها للخطوط السعودية، إضافة إلى تحقيق الأفضل للمواطن في جانب النقل الجوي وذلك على حساب الشركتين.. فخُنقت الدجاجتان خنقاً وعُصرتا عصراً طمعاً في أن تبيضا ذهباً كثيراً، فنازعت الأولى ولم يصدقها أحد حتى فطست، وما زال يُجهز على الأخرى خنقاً وعصراً فلعلها تبيض ذهباً للوطن إذ لم تفعل (سما).