تحتل المساجد في العالم الإسلامي مساحة واسعة في المبنى والمعنى، تحقيقاً لقوله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
وانطلاقاً من قوله عزّ شأنه {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ومن هنا كان التوجيه الرباني الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم بالعناية بالمساجد وإنزالها المكان اللائق بها، فكان عليه الصلاة والسلام في أول عمل يقوم به بعد أن استقر به المقام في المدينة المنورة بعد هجرته المباركة عليه الصلاة والسلام بأن ابتنى مسجداً يجمع فيه المسلمين لأداء الصلوات جماعة، فكان ذلك توجيهاً واضحاً على أن الصلاة باب واسع وكبير جداً من أبواب التقاء المسلمين وتقاربهم وتآخيهم وتعارفهم ببعض، وأوعى لمناقشة جميع ما يهم أمورهم الدينية والدنيوية، فالمساجد ليست مجرد أماكن عبادة فقط فهي أماكن تهذيب وتأديب بالقدوة الصالحة والمثل الأعلى، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ومثلاً أعلى في تعامله وتأديبه وتربيته لأصحابه رضوان الله عليهم، هذه الأهداف ظلت مستمرة، بل قد تجاوزتها في رسالة المسجد والذي أصبح مكاناً للتعلم والدروس وإلقاء المحاضرات والدراسة على يد العلماء والأئمة، فكان أن تخرج من هذه المساجد جمع من العلماء والفقهاء والوعاظ وغيرهم في شتى مناحي التخصص، فكان للعلم والعلماء شأو كبير، بل إن المساجد أصبحت أشبه بالجامعات التي يتخرج فيها العلماء والمفكرون واستمر ذلك حتى العصر الحديث حينما بنيت الجامعات والمدارس الرسمية لتستوعب الأعداد المتزايدة من المتعلمين ولتتعدد التخصصات وتلحق بالمدارس المختبرات العلمية، ثم بعد ذلك إنشاء الجامعات لتقوم بالأدوار التي حافظ عليها المسجد وأسس لها حتى جاءت المدارس والكليات والجامعات النظامية هذه الأنظمة والأدوار التي أصبحت مهمة من مهمات التربية والتعليم، والتعليم العالي، على الرغم من أن رسالة المسجد لازالت واضحة وجلية وإن لم تكن على ما هو معهود سابقاً، تقودنا إلى الحديث عن أمور كثيرة باتت ملحة لمناقشة ما يخص المساجد.
نعلم جيداً الأجر العظيم والثواب الذي يتمناه كل منا حينما يفيض الله عليه سبحانه بفائض من أمواله فيسعى جاهداً لبناء مسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكن دعونا نناقش هذا الأمر بهدوء وبعيداً عن المزايدات فالمسلمون الذين يؤدون الأركان الخمسة هم المخولون لمناقشة هذا الأمر، دون أن يصم بعضهم بعضاً بصفات لا تليق، أقول حينما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه ألا يحضر إلى الصلاة في المسجد وكان ذلك الرجل كفيفاً، أذن له فلما انصرف قال له ارجع، فلما رجع قال أتسمع النداء؟ قال نعم، قال أجب، فالذي يبدو أن المسجد بعيد عن هذا الرجل فلذا جاء استئذانه، ولعلنا من ذلك نخلص إلى أننا في هذا العصر الحاضر والذي تتقارب فيه المساجد كثيراً، بل إن بعض الأصوات تطغى على بعضها، وقد يخلق ذلك ارتباكاً عند المصلين حين متابعة الإمام، لهذا فإن بناء المساجد يجب أن يكون ضمن معايير واضحة في مواقعها، ولوزارة التربية والتعليم تجربة واسعة في بناء المدارس وتواجدها في الأحياء، وقد ترى وزارة الشؤون الإسلامية الاستفادة من تلك التجربة، وقد يقول قائل إن هذه الأرض هي ملك خاص وصاحبها يريد أن يبني عليها مسجداً حتى لو كان هناك مسجد آخر قريب منه فنقول: إن الوزارة تستطيع أن تقنع مالك الأرض وتعوضه في مكان آخر سواء في نفس المدينة أو خارجها حسب الاحتياج، وبذلك تحقق الفائدة المرجوة، أما ما نشاهده من تقارب المساجد بقرب بعضها فإن في ذلك الذهاب بكثير من الإيجابيات التي يحققها تواجد المصلين في مسجد واحد يحول دون تشتتهم في مساجد متعددة فالهدف الأسمى من الصلاة في المسجد هو الجماعة الواحدة وتعرف المصلين ببعضهم وليسهل بعد ذلك التقاؤهم، وتناصحهم والتأثير على الشباب، بالقدوة الحسنة وتجنيبهم أي فكر لا يتماشى مع روح الإسلام، وأمر آخر هو أن المساجد في هذه الحالة تكون تحت عين الرقيب من جميع النواحي سواء كانت رقابة فكرية أو رقابة سلوك للمسؤولين عن المسجد فتسهل بذلك كثير من الأمور مثل الصيانة ومتابعة جميع ما يخص المسجد ولتتوحد الجهود.
أقول ما تقدم وأنا أشاهد الكثير إلا من جاور المسجد والملتصق به، أشاهدهم وهم يأتون على سيارتهم مما يدل على أن وجود مسجد يجمع الجميع سوف تتحقق منه فوائد كثيرة كما سبق، وأمر آخر أرى أنه جدير بالدراسة والملاحظة وهو ما نراه من توسع كبير في مساحات المساجد وارتفاعها ووجود القباب أي ارتفاع أسقفها، وتزيينها وقلبها من أماكن عبادة للخشوع إلى أماكن تأمل في النقوش وغيرها، ولا شك أن هذا التوسع وعلو السقف ليس له ما يبرره، علاوة على عدم الحاجة له، فنحن عندما نصلي لا نجد في المسجد إلا صفين وقد يبلغ الثلاثة صفوف في بعض المساجد ولا أعني المساجد التي على الطرق الرئيسية، وكذلك بعض الجوامع والمساجد التي داخل الأسواق، ولكن أقصد التي في الأحياء، وذلك مرده أولاً لتقارب المساجد، وثانياً: لكبر مساحة المسجد، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة التكاليف سواء في البناء، ومن بعد ذلك في الإضاءة والتبريد وهي طاقات مهدرة سنحاسب عليها يوما ما، وسنكون عرضة للانتقاد من الأجيال القادمة التي ستنظر إلينا بمنظار معين في عدم كبح جماح هذه السطوة المادية التي طغت على حياة الكثير منا، فما أحسن أن نطبق ذلك من بوابة القدوة والمثل الأعلى لنا وهي مساجدنا، ثم بعد ذلك هناك الكثير من المساجد فيها مصليات تتسع لثلاثة صفوف، ولا أعلم سبباً واحداً لتشغيل الطاقة كاملة للمسجد إلا أن يكون الأمر قد ترك لعامل المسجد الذي قد يعي أو لا يعي خطورة ذلك في استنزاف ثروات الوطن.
وقبل أن أختم أود أن أشير إلى نقطة مهمة وهي أن هناك تنظيماً أراه في أغلب المساجد وهو توقيت الصلاة بعد الأذان وتحديد ذلك، فالذي أراه أن مثل هذا التنظيم، جعل الكثير من المصلين يتكاسلون حتى تقام الصلاة فهناك فرق بين الأذان والإقامة في حدود 15 دقيقة إلى 30 دقيقة، فلو حدد أوقات الصلاة بعد الأذان ب5 دقائق لكان في ذلك راحة لكثير من المصلين وأصحاب الحوائج، ثم سوف يوفر ذلك في الطاقة المستخدمة، وسيعتاد الكثير منا على احترام الوقت والتقيد والتبكير وعدم الانشغال بأي عائق لأن الوقت قصير بين الأذان والإقامة، وذلك واضح وجلي في صلاة المغرب مثلاً.
أرجو من الله سبحانه أن نوفق إلى ما فيه الخير لصلاح ديننا ودنيانا.
مدير عام المهرجان الوطني للتراث والثقافة
alromis@yahoo.com