من السهل جداً، أن تجد خطيباً على منبر الجمعة، يُشرِّق بك ويُغرِّب، ويُشمِّل بك ويُجونِب، فتشعر وأنت تستمع إلى خطبته العصماء، أنك في الزمان الخطأ، وفي المكان الخطأ،فأنت تعيش - ربما - في زمن لا علاقة لك به، وفي مكان لا تمتُّ إليه بصلة.
أنت إنسان في غير عصرك. إنسان في غير بلدك. لماذا لا تكون أنت أفغانياً أو باكستانياً أو شيشانياً أو صومالياً، أو حتى عفريتاً من الجن، جيء بك إلى بلد غير بلدك، وناس ليسوا من أهلك، ووطن لا تنتمي إليه ولا هو يصلح لك..!
* كم مرة خرجنا من الجامع بعد الخطبة والصلاة، وبعضنا ينظر إلى الآخر وهو يتفحص الوجوه، ليتأكد هل هو بين جيرانه في الحي الذي يسكن فيه، أم هو في قارة أخرى، وفي بلد بعيد عن البلد الذي كان فيه قبل ظهيرة يوم الجمعة؟
* قلت من السهل علينا جميعاً أن نجد هذا الخطيب العجيب، الذي يمارس علينا (التغريب) الحقيقي من فوق المنبر. التغريب هنا من الغربة وليس من الغرب، فللغرب تغريبه الخاص الذي يستخدمه بعضنا سلاحاً ماضياً ضد البعض الآخر. ومن علامات (التغريب) في هذا المشهد المشهود المعهود، أننا نذرف الدموع مدرارة على أناس لا نعرفهم، ولا تربطنا بهم صلة، سوى أن المنبر يحدثنا بأنهم يجاهدون في سبيل الله، ولهذا نرفع أكف الضراعة بالنصر والغلبة لمجاهدين يحملون السلاح، لمجرد أن خطيبنا يقول لنا بأنهم يقاتلون الكفار، وينوبون عنا في عمليات القتل هذه! كأن ممارسة القتل من مهامنا؛ إلا إذا قام بها البعض القائم، فتسقط إذن عن البعض القاعد، وكثير منا يخرج من الجامع، وهو يعتقد أن المجاهدين مجاهدون حقاً كما هي فريضة الجهاد، وليسوا في واقعهم خوارج، يمارسون الإرهاب، ويستحلون دماء الأبرياء باسم الجهاد، ولا ثواراً طالبين سلطة في بلادهم، ولا مرتزقة بالسلاح والقتل لحساب هذا الطرف أو ذاك.
* وقليل جداً أو حتى في حكم النادر، أن نجد خطيب جمعة مثل الشيخ (خالد الحسن)، إمام وخطيب جامع الإمام (علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه) في محافظة الأسياح. الشيخ الحسن - كما ورد في الوقائع اليومية للصحف الصادرة يوم الأحد الفارط - خصص الخطبة للكلام عن هموم الناس في محيطهم، فانتقد مستوى الخدمات العامة، ونبّه الناس إلى تنازعاتهم وخلافاتهم التي تسببت في تعطيل مشاريع تنموية مهمة للمحافظة، مثل كلية للبنات، ومقر للجوازات، ومكتب للأحوال المدنية، ومجمعات للأسواق التجارية، إضافة إلى تعثر تنفيذ مشاريع من قبل شركات منفذة.
* هل هناك من سبق هذا الخطيب النجيب، إلى هذه الموضوعية في الطرح، وإلى ملامسة هموم الناس اليومية، ومن ثم إشراكهم في الشعور بمدى تقصيرهم، وتحسيسهم بمسؤولياتهم، وإشراكهم في التفكير من أجل إيجاد حلول لمعاناتهم اليومية؟
* أعتقد أن الشيخ الحسن، في هذا الموقف بالذات، يسجل ريادة جديدة في الوجهة التي ينبغي أن تأخذ بها خطبة الجمعة، لأن منبر الجمعة يخاطب شرائح من الناس، مختلفة الرؤى والتوجهات والتفكير، وموزعة الهموم، واهتمامها ينصب غالباً على محيطها وعلى حياتها اليومية، لتبقى مسائل أناس بعداء هناك، ممن هم وراء البحار والمحيطات، من آخر اهتماماتهم، ولو أن خطيب الجمعة وهو في طريقه إلى الجامع، رصد مشاهداته في الشارع فقط، لوجد من المواضيع الكثيرة ما يصلح لخطبته، فنحن نتعامل مع دورنا وشوارعنا وحدائقنا وجيراننا، وكأننا نخوض حرباً لا هوادة فيها. هناك شبان يتكاسلون عن الدخول لسماع الخطبة والصلاة في الجامع، لكنهم ينشطون في تكسير فوانيس أعمدة النور، وفي تسلق الجدران والكتابة عليها بشكل بذيء ومقرف، وقد يقذفون النوافذ، ويعرضون للمارة، ويعبثون بالسيارات. ومن الكبار من يجترح أكثر من هذا مع البيئة التي يعيش فيها، ومع جيرانه، ومع أهل بيته وأولاده وقرابته. إن حياتنا مليئة بما يكفي للحديث عنها سنوات وسنوات، وليس فقط في خطبة جمعة واحدة. إن خطبة الجمعة ليست للفتاوى الفقهية، وليست للأدلجة وتصفية الحسابات، كما أنها ليست للخوض في السياسات، ولا في إثارة النعرات والحزبيات، وليست للتحريض، أو تبني مواقف فئات ضد فئات أخرى. خطبة الجمعة للنصح والإرشاد والتوجيه والتوعية، وهذا هو الذي فعله إمام وخطيب جامع الإمام (علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه) في محافظة الأسياح.
* اللهم أكثر من مثل هذا الإمام الرائد، الذي أثبت أنه يعيش عصره، ويتحدث بلغة عصره، ويصدر عن فقه عصره، ويفيد بني عصره.
JAZPING: 5350