تناوب الاستعمار الإيطالي والبريطاني طيلة قرنين على احتلال الأرض والسواحل الصومالية الطويلة والمطلة على أهم الطرق البحرية التجارية العالمية في البحر الأحمر وخليج عدن على المحيط الهندي..
الاستعمار أيا كان نوعه من استيطاني أو أيدولوجي يترك وراءه العديد من المشاكل الإقليمية وهذا ما حدث في الصومال.. فالإنجليز منحوا إثيوبيا مناطق عديدة في الصومال وغيروا الحدود الدولية مع الجارة «كينيا» مقابل مكاسب اقتصادية حصل عليها المستعمر بعد انسحابه.
الدولة الصومالية التي أعلنت وحدتها واستقلالها عام 1960م وبعد انتهاء حفلات الاستقلال بدأت مرحلة التحضير للانقلاب العسكري الذي قاده محمد سياد بري وقد اتبع نظام الديكتاتورية العسكرية وجهَّزَ جيشاً كثير العدة والعدد وبدأ يحشد الشعب الصومالي لاسترداد «إقليم أوغادين» في القرن الإفريقي واستطاع جيش بري الاستيلاء على أكثر من 90% من أرض الإقليم إلا أن نداء الاستغاثة الذي أطلقه الرئيس الإثيوبي «مريام» ونظامه الشيوعي لرفاق الأيدولوجية في الاتحاد السوفيتي آنذاك طالباً العون العسكري لرد الزحف العسكري الأمبريالي كما كانت تصفه البيانات العسكرية الإثيوبية فسارعت القوات السوفيتية لتشكيل جيش شيوعي مشترك من قوات كوبية وتساندها فرقة خاصة من اليمن الديمقراطية الشعبية بقيادة الخبراء السوفيت وتم دحر الجيش الصومالي بعد قصفه بالطائرات الحديثة التي انطلقت من قواعدها في اليمن الجنوبي الديمقراطي وانتهت حرب التحرير الصومالي وتلقى «سياد بري» درساً قاسياً من أقطاب الحرب الباردة بعد تراجع الإدارة الأمريكية عن وعودها بمساعدة حكومته وبرر الرئيس كارتر بخشيته من التصادم المسلح بين القوتين الأمريكية والسوفيتية!
أصبح الشعب الصومالي ضحية الصراعات الدولية ومن أيتام الحرب الباردة وإثر الهزيمة العسكرية فقدت الإدارة المركزية في مقديشو سيطرتها على الأقاليم وبدأ التناحر العشائري والقبلي يظهر على المشهد السياسي الصومالي وغذَّت إثيوبيا روح الانفصال والتمرد على السلطة فأعلنت ميليشيات عسكرية انفصالها وأعلنت جمهورية أرض الصومال في الشمال في عام 1991م ومع الاستقرار النسبي الذي يسود هذا الإقليم إلا أنه لم يحظَ بالاعتراف الدولي كدولة جديدة غير مرحب بقيامها في محيطها الإقليمي والدولي. وبدأ الصراع المسلح يعم كل أقاليم جمهورية الصومال بدعم إثيوبي وتمكن أنصار الفريق محمد فرح عيديد من بسط سلطته على العاصمة مقديشو بعد أن أحالت الحرب الأهلية العاصمة مقديشو ركاما من الخرائب يفوح منها عفن الجثث البشرية الملقاة في شوارعها ورائحة البارود قد اختلطت بالدم، وأمام هذا الوضع المأساوي الكارثي صدر قرار مجلس الأمن رقم 794 بالتدخل الأممي عسكرياً لإحلال السلام والأمن وإنقاذ الوضع الإنساني بتقديم معونات إغاثية من الأم المتحدة وبعض الدول المانحة إلا أن القوات الأمريكية لم يدم مكوثها في مقديشو وانسحبت بعد عام لتكبدها خسائر عديدة بين صفوف جنودها! وتعددت الفصائل المسلحة وتحول الصومال ساحة للنزاع الإقليمي (حرب استقلال إريتريا عن أثيوبيا) ومن خلال هذه الفوضى الأمنية التي غطت الصومال ظهرت حركة المحاكم الإسلامية والتي دخلت بحرب ضارية مع الجارة إثيوبيا والتي ردت بتجهيز جيش كبير تمكنت من خلاله من احتلال العاصمة مقديشو وقصفت أقاليم الصومال بالطائرات الحربية وخربت مطاراته مما اضطر بقوات المحاكم الإسلامية للهرب نحو الحدود الكينية، وبدأت مرحلة قاسية من الفضوى الأمنية وتحول مينائي (هاراديري وآيل) مكمناً ومقرًّا للقرصنة البحرية التي تتحفظ على السفن المختطفة في خلجانها الداخلية المغلقة ويساوم الناطق باسم هذه العصابات الإرهابية مالكي السفن عن (الفدية) النقدية لفك أسرها وتركها تتابع سيرها، وقد تكون الكوارث الطبيعية التي أصابت سواحل الصومال نتيجة (أعاصير تسونامي) عام 2004م وراح ضحيتها (300) من صيادي الأسماك وتدمير العديد من القرى الساحلية وأضافت الأمطار الموسمية الغزيرة فيضانات شاملة تسببت في تشريد أكثر من نصف مليون صومالي ومن نتائج هذه الكوارث الطبيعية السلبية النزوح الإجباري لآلاف من صيادي السمك نحو الأقاليم الداخلية وتشكلت ميليشيات مسلحة منهم للهجوم على سفن الصيد الدولية خارج المياه الإقليمية الصومالية وأسر هذه السفن نحو سواحل إقليم (بند لاند) الذي فتح موانئه للقراصنة وللتحفظ على السفن المأسورة! وتم استغلال هذه المجموعات المسلحة وحولت إلى فرق من القرصنة البحرية المدربة على أساليب الخطف البحري مستخدمين قوارب سريعة جداً مجهزة بأنظمة الدفاع الجوي وقذائف صاروخية وأنظمة اتصالات ورصد بحري لسير السفن التجارية موصول بالأقمار الصناعية.. وكل راصد سياسي لهذه الحالة غير الطبيعية يتساءل (من وراء هذه المجموعات الإرهابية) والتي تهدد حركة الملاحة الدولية التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن وتمتد بعمليات القرصنة حتى ما بعد (باب المندب) على سواحل المحيط الهندي وبحر العرب.
أصبحت حالة القرصنة البحرية الصومالية مشروعاً إرهابياً دولياً يهدد الأمن العالمي وتوالت القرارات الدولية التي تناشد المجتمع الدولي بحصر تزويد الميليشيات الصومالية بالأسلحة والمراقبة الدولية لأجواء البحار الإقليمية المحيطة بالصومال إلا أن المتتبع لحالات القرصنة والتي بلغ عددها أكثر من (120) اختطاف بحري وبلغ مجموع الفدى المحصلة من الشركات المالكة للسفن أكثر من مائتي مليون دولار. قد تكون القرصنة البحرية الصومالية أداة ظاهرة لمخطط دولي واسع هدفه محاولة تدويل البحر الأحمر وخليج عدن والسيطرة على الحركة البحرية عند باب المندب إثر حالة الإغراق التجاري لسوق دول الشرق الأوسط بالبضائع الرخيصة المصدرة من دول شرق آسيا (الصين - اليابان - كوريا - الهند) وطردها للمنتجات الأوروبية من تلك الأسواق، وقد تكون هذه العصابات الصومالية مأجورة من قوى دولية تسعى لتعكير أمن البحر الأحمر وإضعاف أهمية قناة السويس كممر بحري آمن للسفن المبحرة من المحيط الهندي نحو البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر وتحويل سير السفن نحو خط «الرجاء الصالح» الطويل والمكلف مما يحمل هذه السلع القادمة من الشرق الأقصى تكاليف نقل وتأمين عالية تؤثر على أثمانها وبالتالي ترفع أسعارها في أسواق الشرق الأوسط وتفقد تميزها.
إن أمن البحر الأحمر وقناة السويس خط أحمر لا يقبل الانتظار ولابد من تعاون الأفارقة والعرب للقضاء على حالة القرصنة البحرية وتذكير الإخوة الصوماليون بمعنى نشيدهم الوطني (استيقظوا أيها الصوماليون).
* هيئة الصحفيين السعوديين - جمعية الاقتصاد السعودية