تأتي الرغبة في مواصلة التعليم في الخارج أحد الظواهر التعليمية التي شهدتها مؤخراً الساحة السعودية على خلفية فرص الابتعاث الهائلة المتاحة للمواطنين والمواطنات التي يقدمها لهم برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث؛
إذ لم يعدم بيت سعودي من طرح خيار الابتعاث للنقاش والمداولة بين أفراد تلك الأسر بمجرد إنهاء الابن، أو الابنة للمرحلة الثانوية، أو الجامعية مشكِّلة بذلك ظاهرة يتنازعها ويقود دفتها إما استجابة للوجاهة الاجتماعية، أو الرغبة في اقتناص فرصة تعليمية ذا إمكانيات قد لا تتوافر في التعليم المحلي، وربما يضاف إلى ذلك سبب آخر يتمثل في الرغبة في مجاراة خيار الأقران والأصدقاء. كما أنه يأتي استجابة لاستحقاق مرحلي دفع بصانعي القرار لاعتماده.
لا يمكن إغفال الوجاهة الاجتماعية في مسعى بعض الأسر الدفع بأبنائها وبناتها لمواصلة ركضهم التعليمي في جامعة خارج البلاد من غير إدراك ودراسة مستفيضة لقرار بمثل هذا الحجم وتبعاته المترتبة عليه. وعلى الجانب الآخر نجد أن هناك أسر تبني قرارها والدفع بفلذات أكبادهم لمواصلة تعليمهم في الخارج لإدراكها أن هناك مردودا إيجابيا هائلا من جراء الإقدام على خطوة كهذه؛ نظراً لافتقار الجامعات المحلية إلى تخصصات معينة حديثة، ووجود فجوة معرفية كبيرة بين الطالب الذي يدرس في جامعة محلية والطالب الذي يدرس في الخارج. كما أن الركض المحموم باتجاه اقتناص فرصة الابتعاث يصدق أن يكون أحياناً نتيجة لتقليد الأقارب والأصدقاء الذين حزموا حقائبهم وتوجهوا للخارج لإكمال مسيرتهم التعليمية من دون أخذ في الحسبان أية نواحٍ أخرى ومدى وجود قدرات وإمكانيات ذاتية مسبقة لضمان نجاح خوض تجربة بمثل هذا الحجم.
وبين هذا وذاك تأتي نظرة مسيرة هذه البلاد التي ارتأت أن الابتعاث في هذه المرحة ضرورة واستثمار تنموي عالي القيمة يمكن تحقيق العديد من المكاسب من جراء الأخذ به على مختلف الأصعدة والنواحي. فنجد أولاً أن الابتعاث للدراسة في الخارج يمثل إحدى استحقاقات المرحلة الراهنة التي تتطلب استثمار في موارد بشرية يقع على كاهلها الاطلاع على المعارف والعلوم التي جادت بها جامعات الغرب، ومراكز أبحاثه، ومعامله، وبخاصة ذات الصبغة التطبيقية، ومن ثم العمل على توطين تلك المعارف والعلوم. والدراسة في الخارج تتيح لتلك الموارد والكفاءات البشرية أيضاً القدرة على متابعة دائمة للجديد في تلك المجالات، مما يجعل دولاب التنمية لدينا متجدداً بفضل تلك العقول التي تعمل على استقطاب الجديد والإفادة منه بصفة دائمة ومستمرة.
والأمر لا يتوقف على ذلك فقط، وإنما تمثل الدراسة في الخارج إحدى العناصر الجوهرية لتنمية قدرات أبنائنا. نحن نمر بطفرة إنمائية سريعة الوتيرة في شتى المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والصحية، والتعليمية. ومن هنا فنحن بحاجة إلى من يتولى دفتها بدلاً من الاعتماد كلية على الخبرة الأجنبية. أبناؤنا هم من يجب أن يكونوا الفاعل الأول في حركة البناء والتطوير، وذلك لا يمكن أن يتحقق من غير أن نسعى بقوة إلى الاستثمار والتوظيف الأمثل لتلك القوى البشرية الوطنية المحركة للتنمية من خلال تعليمهم، وتدريبهم، وابتعاثهم إلى بلاد الشرق والغرب، حيث مظان المعرفة، والمستجدات، والابتكارات العلمية، والتكنولوجية.
كما أن القيادة العليا ترى أن الدراسة في الخارج عامل مهم لخلق جيل ذي أفق منفتح على ثقافات، وعادات، وتقاليد الشعوب الأخرى يعمل في كل أحواله على أخذ وتبنِّي المفيد منها، وإبداء قدر عالٍ من الاحترام والتقدير للعادات والتقاليد المخالفة لما نملكه. وهذا الانفتاح المتوقع كنتيجة حتمية لتحقق فرصة الدراسة في الخارج يؤدي كذلك إلى أن يكون الدارسون أداة لبناء جسور التواصل والتفاهم بيننا وبين العالم الخارجي مما يزيد من مجالات التعاون بيننا وبين دول العالم، ويعزز أواصر صداقتنا لشعوب العالم، وبالتالي تزداد معارفنا، وفهمنا لطبيعة الشعوب والثقافات، وبخاصة في ظل ما يمكن تسميته بحالة من الاعتمادية الاقتصادية والتقنية والعلمية المتبادلة بيننا وبين دول العالم ذات قصب السبق في تلك المجالات. كما أنّ الدراسة في الخارج أيضاً تجعل الدارس أكثر شمولية وعمقاً في نظرته لمجتمعه وقضاياه الاجتماعية، والثقافية، والتعليمية وفي الوقت نفسه تعمل على تهذيب نظرته، وجعل حكمه على الكثير من الأمور أقرب إلى الواقعية، وأكثر عقلانية، وشمولية، ودقة، نظراً لثراء تجربة الدراسة في الخارج التي تساهم في إعادة تشكيل الدارس لذاته من جديد، ولأنها تطلعه على رؤى ومعارف وفلسفات أخرى.
الدراسة في الخارج وسيلة أيضا لإكساب المبتعثين قيماً مهنية نحن بحاجة إلى نقلها إلينا، ومن ثم جعلها من تقود تصرفاتنا المهنية في جميع الميادين، ليس من باب إفشاء السر حين القول بأننا في تسييرنا أو إدارتنا لدفّة أعمالنا، نفتقد إلى قدر عال من الانضباطية والجديّة، والإخلاص عند أدائنا لما يناط بنا من أعمالنا، والتفاني عند القيام بها، والأمانة والرغبة في الإنجاز والتميز، والدقة في المواعيد، وتقدير جهد الآخرين، والاعتراف بعطائهم، ووضع نصب أعيننا المصلحة العامة على حساب المصلحة الشخصية، وغيرها من القيم المهنية والعملية العالية التي هي أكثر التصاقاً أو بالأحرى القيم التي تُسيّر نمط العمل المهني في دول العالم، وبخاصة الدول الغربية، ومن هنا فوجود الدارس في تلك البيئات يساهم في إكسابهم تلك النوعية من القيم والمهارات وبالتالي يكون لهم إسهام لاحقاً عند عودتهم إلى أرض الوطن لإحداث التطوير والتغيير المطلوب في أداء مؤسساتنا الخاصة والعامة.
الدراسة في الخارج استثمار تتطلّبه استحقاقات المرحلة التي تعيشها المملكة في المرحلة الراهنة. بحلول عام 2005 أصبحت المملكة عضواً في منظمة التجارة العالمية وهو ما يعني أننا أصبحنا جزءاً من سوق تجارية ضخمة تمدنا كل يوم بالجديد والمفيد من المنتجات والوسائل التقنية والتعليمية والحياتية التي لن يكون لنا غنى عنها لتسيير شؤون منشآتنا ومؤسساتنا العامة والخاصة. فكيف لنا أن نستوعب تلك المنتجات والوسائل، والعمل على تطويرها، وتوفير متطلباتها من دون تسليح أبنائنا بالمعرفة والمهارات الضرورية لذلك، ومن دون سعي حثيث منا لتعليم وتدريب المحرك الأساس في العملية الإنتاجية على أعلى مستوى وفي أفضل المراكز التدريبية والتعليمية العالمية.
ولا أخال أن هذا الركض بهذا الاتجاه لمعرفة يقينية أنه منفذ يكسب دارسينا العديد من المكتسبات العلمية كالفكر المنهجي العلمي، ومعرفة بطرق البحث العلمي، ومعرفة باللغات الأجنبية، والاستفادة من التنوع القيمي والعلمي الذي تزخر به المؤسسات التعليمية الغربية، والوقوف على تجارب علمية غنية، والاطلاع على نظم معرفية وتربوية يتم تطبيقها على أرض الواقع التعليمي في بلد الدراسة في الخارج. ولذا فالدراسة في الخارج بمثابة ترجمة عملية للاستثمار في أبناء هذا الوطن من خلال تنمية معارفهم وقدراتهم ومهاراتهم العلمية جراء إتاحة الفرصة لهم للدراسة في الجامعات والمؤسسات العالمية وبالتالي مدِّنا بالخبرات والكفاءات العلمية المؤهلة، وبخاصة في التخصصات العلمية الدقيقة التي سيكون لها باع في تحديث وتطوير مؤسساتنا التعليمية.
وهكذا نجد أنه مهما تباينت الأسباب واختلفت الدوافع يستوي في ذلك الشخصية والأسرية والرسمية فإن الابتعاث للدراسة في الخارج إنما هو في الواقع استثمار بشري رائد يؤدي إلى فوائد جمة يمكن تلمُّسها في أنها تخلق في الدارس قيماً ومهارات مهنية يقوم الدارس بنقلها حين عودته إلى أرض الوطن، وبالتالي العمل لاحقاً على إشاعتها في محيط عمله، وهي أيضاً تساهم في انفتاحنا وتواصلنا مع العالم الآخر، وتقبُّلنا واحترامنا لأنماط ثقافية تختلف عن قيمنا وعاداتنا، كما أنها وسيلة لتسليح أبنائنا وبناتنا بالمستجدات العلمية في جميع الحقول والميادين، وتنمية مواردنا البشرية من الناحيتين الكمية والكيفية، ولكن تلك الفوائد لا يمكن تحققها من خلال فتح باب الدراسة في الخارج على مصراعيه من غير دقة في اختيار العناصر المرشحة للدراسة، ووضع ضوابط وقيود أو بالأحرى رسم خطة إستراتيجية منظمة، ووفقاً لمعادلة تخطيط مستقبلي تقود إلى نتائج نسعى لها من جراء إيفاد فلذات أكباد الوطن إلى معاقل العلم والمعرفة الشرقية، والغربية تحديداً.