أتفاجأ في كل يوم بقنوات فضائية تشعل الأرواح والأجساد وتجبر الرؤوس لكي تهتز، والمشاعر لكي تثور، واللعنة لكي تحل، والأبصار لكي تجول، فتتحول بقدرة قادر من قنوات إصلاحية تثقيفية توعوية إرشادية تنويرية إلى قنوات.....
..... تحريضية تثير الفتن تختفي تحت عباءة البرامج الترميزية الملغمة. إن هذه القنوات رغم تعددها وتنوعها واختلافها في الأداء والرسالة والبرامج والتوجه إلا أن لها خاصية مشتركة في إجادة فن اللعب على حبال الجمهور المتلقي بامتياز، فإذا كانت السياسة هي فن الممكن على طاولات المحادثات، فإن سياسة هذه القنوات هي فن الممكن تحت طاولة المحادثات لجلب أكبر رصيد مالي مفتوح، لسد شهوة المال ولكسب أكبر قدر ممكن على حساب البسطاء من الجمهور المتلقي، وذلك وفق خطابات تحريضية ثورية اختزالية تكتيكية فئوية مقصودة ومعنية تمزج الارتجال العاطفي لسوق الهتاف. إن الناظر إلى هذه الفضائيات يجد أنها تشترك في بث إسهال برامجي غير مدروس مبني على دغدغة العواطف وإثارة البلابل وتجييش الناس وسوقهم إلى مجاهل مظلمة دون وعي منهم ودون إدراك. إن هذه القنوات الفضائية تنفذ بقصد ومن غير قصد ومن خلف غرف مظلمة صغيرة يسمونها أستديوهات مخططا تدميريا عبثيا وفق سباق محموم وصراع بينها للفوز بأكبر نصيب من الكعكة السوقية. إنني لا أبدي أي حساسية شديدة من أي من الفضائيات ولكنني ضد اللا مسئولية في البث وفي الأداء ومع وضع قانون ينظم ويضمن الأداء والبث دون منغصات ودون ارتجالات ودون خزعبلات لها هالات بلهاء عوجاء وقصور بائن. إننا نحتاج إلى تشريعات قانونية جديدة تلجم هذه القنوات العبثية بلجام قانوني ترعد فرائص القائمين عليها وتجبرهم على السير وفق الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. إن المطالبة بسن قوانين جديدة فاعلة وفعّالة تعني مزيدا من حماية الذوق والذائقة والتخفيف من سلطة المتسلطين ومن مزاجية الفضائيين وانفعالاتهم وتوجهاتهم وأهدافهم المريبة، وكذلك من استغلال أصحاب تلك الفضائيات لجيوب المساكين الذين مع (العجة) يطيرون. إن مصادر خطر تلك الفضائيات تظل قائمة بشكل أو بآخر ما دامت ثقافة التنوير الحقيقي لديهم متدنية، وما دامت رسالة ترسيخ القيم وإشاعتها في المجتمع غير فعّالة وليس لها أساس، وما دامت خطابات التعبئة النارية بكل أفكارها وقيمها وثوابتها مزدهرة بشكل غير عقلاني بلا حكمة ولا حصافة ولا بعد نظر. إن أكثر ما يقلقني أن البعض من هذه القنوات ترتكب جرماً أخلاقياً وانحرافاً سلوكياً له صور عديدة ومتنوعة للوصول إلى أهدافهم المنشودة في الكسب والتربح لا غير. إن لعنة هذه الفضائيات لن تنتهي ما دامت هذه اللعنة لها أسبابها ومسوغاتها وأرضيتها المستوية وطلابها ومشاهدوها الذين عبئوا وأطروا من قبل تلك القنوات نفسها حتى أصبحوا مدمنين لها بتفوق وامتياز يصفقون لها دون وعي ودون مسؤولية ودون إدراك لما يجري. إن بعض هذه القنوات تحاول جاهدة تجفيف الحياة من أمواجها وسكب بقية الحياء على فضاء أصفر بالٍ بعيداً عن الدور الريادي في التوجيه والتعليم والتثقيف، مفضلة إثارة المعارك والنزاعات والكوارث الطائفية والفئوية والإقليمية والحزبية في برامجها وفق طرح تحريضي مقيت. في المجمل الأخير، إن هذه القنوات تشبه إلى حد كبير اللصوص، فكما يوجد لصوص يسرقون المال من البيوت ومن المتاجر ومن البنوك، ولصوص يسرقون الأغنام من الحظائر، ولصوص يسرقون السيارات من أمام البيوت، ولصوص يسرقون الخضار والفواكه من الباعة، فكذلك هي تلك النوعية من الفضائيات مجرد لصوص خطيرة في الطرح وفي التلقين وفي الأسلوب وفي إثارة الفتنة وإشاعة ثقافة التحريض والموت والهلاك والعداوة والبغضاء بعيداً جداً عن تكريس ثقافة الإخاء والمحبة والألفة والتفاهم والحوار الهادف السليم.