بمناسبة ما مضى من الحديث عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أُحبُّ أن أَجْلوَ الواقع بأمرين ضرورين:
* لأمر الله.. والمحك الردُّ إلى كتاب الله بعد التمحيص دلالة، وإلى سنة رسول الله بعد التمحيص دلالة وثبوتاً، وإلى سيرة السلف الأول بالدرجات التي سأذكرها إن شاء الله.. ومن هؤلاء رضي الله عنهم من لم يكن له رواية ولا فتيا، وله هِنات، وقد شهد المَشاهِدَ كلَّها مثلُ النعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري رضي الله عنه الفكاهي ما رآه رسول الله إلا ضحك؛ لكثرة مقالبه الفكاهية، وقال له أحد الصحابة رضوان الله عليهم: (لعنه الله)؛ فقال النبي: (لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله )، وأخباره رضي الله عنه في معجم الصحابة لابن قانع 14-5120 - 5121، والاستيعاب لابن عبدالبر 4-87 - 90 - دار الكتب العلمية، وأسد الغابة 5-351 - 352، والإصابة 11-112 - 117 على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز حفظه الله، ومسند الإمام أحمد 26-73 و44 - 283- 285، وصحيح البخاري بشرحه فتح الباري 11 - 79 - 80 و 82 و92- 98 - دار السلام - رحمهم الله تعالى؛ فالنعيمان ممن تاب قبل شريعة قتل شارب الخمرة في الرابعة، وهو من أهل المشاهد كلها؛ فهو من السابقين الأولين المضمونة لهم الجنة، ولم يُحْرجِ المسلمون برواية له ثابتة أو فتيا، ومن كان مثله من غير السابقين فهو ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، وأهل الرواية والفتيا من الصحابة رضي الله عنهم على السلامة مما يجرح العدالة؛ فلله الحمد والمنة.. والاتِّباع للسلف الأول على درجات؛ فالشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قدوتان بالنص الصحيح الصريح عن رسول الله فيما أمضياه في سيرتهما ولو بعد خلاف مِمَّن دونهم من الصحابة رضي الله عنهم؛ ففي مسألة العول قَصُرَت أسهُم الإرث عن الوارثين؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (نحط من هو أولى بالحطيطة).. أي الذي يسقط سهمه في بعض الصور.. ورأى عمر رضي الله عنه أنه وارثٌ نصَّاً، والمسألة مما سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان؛ فاجتهد عمر رضي الله عنه في دائرة المقاصد الشرعية، والمطلب ههنا تحقيق العدالة؛ فأعال الفرائض حتى تُحقِّق اسمَ الفرض المحدَّد لكل واحد وإن كان أنقص من المسمَّى، وكان ذلك أعدل من حرمان أحد الورثة كلياً؛ فكان ذلك سنة ماضية، والاجتهاد بغير ذلك مردود.. وقد وَهَلَ كثير من العلماء رحمهم الله تعالى في فهم دعاء الرسول لابن عباس رضي الله عنهما أن يفقِّهه ربه في الدين، وأن يعلمه التأويل؛ فظنوا أن فتياه هي الأصوب دائماً.. وليس الأمر على هذا؛ فهو رضي الله عنه بعد السابقين الأولين زمناً؛ فالرسول دعا له ليفقه على نهجهم، ويتقن التأويل على نهجهم؛ فلا أحد أفقه بمقاصد الرسول من الشيخين، ودعاء الرسول في مثل هذا لن يخيب؛ فأدرك ابن عباس رضي الله عنه من الفقه والعلم بالتأويل ما جعله من علماء الصحابة إلا ما قام البرهان على نقض اجتهاده في بعض الرخص؛ لخفاء النص عليه مما روي عن رسول الله، وما قام برهان التوثيق التاريخي على أنه لم يصح عنه، وقد نُسب إليه شيء كثير محَّص أهل العلم أسانيده فوجدوا أنه لا يصح، وبينوا الطرق الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا سيما في التفسير.. وما لم يمضه الشيخان في سيرتيهما، ونصَّا على أن الأمر اجتهاد منهما، ثم ثبت نص شرعي على خلاف ذلك، أو قام الرجحان على صحة اجتهاد مَن خالفهما من الصحابة رضوان الله عليهم فالمتَّبع الدليل.. على أن الخلاف على أبي بكر رضي الله عنه قليل جداً، ومن خالفه في مسألة رجع إلى قوله.. ثم يليهما ما أمضاه عثمان وعلي رضي الله عنهما في خلافتهما بنص الحديث عن العرباص بن سارية رضي الله عنه باتِّباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا فيما شرح الله له صدور الصحابة فأقَرُّوه ولو بعد اختلاف.. وأما ما لم يقره الصحابة وفيهم من السابقين الأولين رضي الله عنهم فالمتَّبع الدليل، وللمخطئ أجر ومعذرة من الله، ولذي الإصابة أجران.. هذا في الأحكام، واجتهاد الصحابي عن غير نصٍّ شرعي أحضره إذا لم يُعلم له مخالف من الصحابة رضوان الله على جميعهم فهو المتَّبع في الأصل ما لم يظهر للمخالف نص شرعي صحيح، أو برهان قاهر.. ويلي الخلفاء الأربعة الراشدين بقيةُ العشرة المشهود لهم بالجنة؛ فهم من السابقين الأولين، وهم من أهل الرواية والفتيا، وكل ما حصل بينهم من الخلاف فهو على الصدق والاجتهاد النزيه في تحرِّي الحق وإن كانت الإصابة في جهة واحدة، ولا سيما بعد العلم اليقيني بكيد ظلامي من يهود وأبناء البلدان المفتوحة من الأجناد الذين أظهروا لهؤلاء الفضلاء رضي الله عنهم خلاف الواقع.. ولضمانة الله بوعده الشرعي بحفظ الدين الصحيح ضَمِن لنا ربنا بقضائه الكوني القدري تحقُّقَ ذلك؛ فكان أهل الرواية والفتيا من الصحابة رضوان الله عليهم معروفين بأعيانهم إحصاءً وعدَّاً؛ فكل رواية لهم لجلال سيرتهم فهي على العدالة والصدق إلا ما أثبت التوثيق التاريخي أنه سهو أو جمع بين قصتين أو شك في الواقعة؛ فالنسيان والسهو لم يضمن الله عصمة العدول منه، ولكن ضمن لنا ربنا حِفْظَ ما حفظه آخرون وسها فيه آخر.. وأما الفتيا فهي على النزاهة والصدق في تحرِّي الحق؛ لجلال سيرتهم، ولكن حديث رسول الله غير مجموع في صدر صحابي واحد، ولكنه مُفرَّق في صدور الصحابة رضي الله عنهم؛ فيغيب عن واحد منهم ما علمه آخرون، وقد يُخطئ في الاستنباط، والمجتهد يُمحِّص ذلك بالبرهان اليقيني أو الرجحاني.. هذا كله في الأحكام المتعلِّقة بأفعال العباد كما أسلفتُ، وأما الأخبار فكل ما يتعلق بأسماء الله الحسنى فلا يحل لمسلم أن يحدث قولاً لم يقولوه، ولا يحل له أن يخالف ما قالوه؛ لأن التاريخ أثبت عصمتهم من البدعة، ومن الإلحاد في أسماء الله.. وأما الأخبار عن غيوب لا تقع إلا يوم القيامة فحكمها كذلك، وأما الأخبار عن غيوب تقع في الدنيا كحقيقة تغيير خلق الله، والخبر بأن الله سيخلق ما لايعلمون: فمن وقع في عهده انكشاف ذلك الغيب فسَّر النص الشرعي بما حدث قطعاً وإن خالف المأثور من الاجتهاد.
والأمر الضروري الآخر الذي وعدت به: أن ما حدث من بعض السلف الأول مما استوجب عتب الرب سبحانه فقد عفا الله عنه كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، وإذْ ضمن الله لهم الجنة بدءاً فكل تقصير نادر يحدث لأحدهم لن يكون أبداً مخلاً بكونهم قدوة، ولا قادحاً في عدالة روايتهم وصدق اجتهادهم، وهم مغفور لهم يقيناً، ولقد لطف الله بهم في عتابه؛ فأدخل معهم صفوة الخلق إجمالاً، ثم استثنى تفصيلاً؛ فقال سبحانه وتعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة 117)، والاستثناء في قوله تعالى: {فَرِيقٍ مِّنْهُمْ}، وذلك في غزوة تبوك، وأرجح قول في تفسير توبة الله على رسوله أن ذلك محمول على اجتهاده في الإذن للمنافقين الذين اعتذروا عن الذهاب لتبوك بأعذار كاذبة؛ للنص الصريح في قوله تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة 43)، والقصة واحدة، والصواب أن المراد إذنه لهم بالقعود لا إذنه لهم بالخروج معه؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة 43)، فعدم الإذن لهم بالقعود يُظهر صدقهم أو كذبهم.. وهذا هو الميزان فيمن جاء بعد السلف الأول، وهو أن يكونوا على الاتِّباع بإحسان، ومن معاني الإحسان الإتقان.. وحدث بين أهل القبلة إلحاد في أسماء الله، وبِدعٌ عن تضليل، كما أن افتراق أمة محمدإلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قوي الصحة؛ لتضافر طرقه، وهذه الواحدة على من كان من أتباع السلف بإحسان فيما لا يسع فيه الخلاف، والوعد بالنار لا يقتضي أنهم كلهم مخلَّدون فيها، بل فيهم المخلد وغير المخلد، ولا تلازم بين البدعة والتبديع إلا مَن انسلخ من الدين من علماء السوء في فرق الباطنية.. وعدم التلازم لسعة أوجه العذر، ولكن من بُيِّنت له الحجة، وبُيِّن له ما يلزمه، ودُفِعت شبهته، وانقطعت حجته، والله يعلم من باطنه أنه معاند لهوى أو عصبية أو رئاسة أو ارتزاق يلزمه عند الله ذنب ما صدر عنه من كفر أو بدعة، وأما في الدنيا فلا نشهد لأحد بجنة أو نار، بل نرجو للمحسن الثواب، ونخاف على المسيء العقاب، ونعرف ما هو إيمان وكفر، وما هو سنة وبدعة.
وللإخلال بالموازين التي أسلفتها تجرَّأ بعض المعاصرين على الصحابة رضي الله عنهم، مضمرين العقيدة على أنهم على العصمة من الخطأ والذنب، ولم يُفَرِّقوا بين ذنب قد يغفره الله وهو لا يقدح في عدالة روايتهم وصدق فتياهم في تحري الحق.. وبين ذنب فيه تعمُّد تغيير دين الله، وهذا لم يكن أبداً؛ لأن الله حفظ دينه، وجعلهم واسطة نقله، وهيَّأ للقرون الثلاثة الأولى معرفة أحوالهم وتدوينها.. وأقبح هذه الكتب المعاصرة كتاب (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة) لخليل عبدالكريم.. وأما من كفَّروا الصحابة رضي الله عن الصحابة ولعن الله إلى الأبد من كفَّرهم، وطرحوا روايتهم التي لا يتم بلاغ الدين ولا فهم القرآن إلا بها من ضحايا عبدالله بن سبإ ومتأسلمة عبدة النار فتبديلهم لدين الله معروف يُثبته الواقع الملموس؛ فهم يأتون إلى قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران 144)؛ فيقال لهؤلاء الأغيار: لقد وقعتم في عنق الزجاجة الخانق من وجوه كثيرة، ولزمكم الانسلاخ من الملة بما تعجز عنه عقولكم الخاسئة:
فالوجه الأول: أن نصوص الشرع لا تُفسَّر إلا بلغة العرب؛ لأن الشرع جاء بلسان عربي مبين، ومن فسَّر الشرع بغير اللغة التي نزل بها فقد افترى على مُنَزِّل الشرع سبحانه، ومن فسر كلام إنسان بغير اللغة التي نطق بها فقد افترى عليه إلا إن كان مُلْغزاً، ولا ألغاز في شرع الله.. وأنتم تفسرون نصوص الشرع بغير دلالة من لغة العرب، وبلا برهان شرعي يدل على أن تفسيركم هو المراد.
والوجه الثاني: أن اتصال الخبر إلى رسول الله باتصال العدول ليس موجوداً عندكم لعلكم تُظهرون شيءاً من صحة دعاواكم الميتافيزيقية الخرافية الكاذبة، وأَّنى لكم ذلك؟!.. والإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء، كما أن توثيق الرواة، وتحقيق اتصال السند بجهدٍ لحوحٍ جماعي مفقود عندكم، بل عِلم الرجال عندكم مهزلة أيما مهزلة، ولا أفقر من العلم بحال الرواة لديكم، والتاريخ اليقيني المتواتر والرجحاني شاهدان بكذب توثيقكم وتجريحكم.
والوجه الثالث: أن الآية الكريمة نزلت في يوم أحد، وهي شاملة الدلالة؛ ولهذا احتج بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت كارثة أُحد بانشغال الرماة في جمع الغنائم اجتهاداً منهم، فاستحرَّ القتل في المسلمين، وثبت رسول الله ومن معه من خيار الأمة، ودخل الوهنُ مَن انهزم ظانَّاً أن محمداًقُتل خائفاً من تغلُّب كفار قريش، ومنهم من لم يصبر للمواجهة في هذا اليوم العصيب دون شك في دينه، وقد عفا الله عنه.. وبعد أن توفَّى الله عبده ورسوله محمداًحدثت رِدَّة عند بعض الأعراب، وحدثت معصية عند بعضهم بمنعهم دفع الزكاة للإمام، وهم الأعراب الذين ذكر الله حال بعضهم في سورة التوبة.. هذا حق لا ننكره نزل بلسان عربي مبين قطعي الثبوت، ولكن يقال لهؤلاء الأغيار: أخبرونا عمن قاتل هؤلاء الذين اقترفوا ردة، والذين اقترفوا معصية من غير جحد للوجوب، ومن الذي أدخلهم من الباب الذي خرجوا منه؟؟.. أليسوا هم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين تلعنونهم وتكفرونهم؟.. إنهم والله السلف الأول وأتباعهم الذين بايعوا الشيخين والخليفة الثالث الراشد عثمان رضي الله عنه.. ثم حدثت الفتنة، والعمل الظلامي الذي وقعتم في شَرَكِه فثنَّيتم بقتل عثمان رضي الله عنه، وشغلتم المسلمين فكان القتالُ بينهم، وما جعلتم الأمر يستقر للخليفة الراشد علي رضي الله عنه فخذلتموه وانشققتم عليه، وشُغل باستصلاحكم والبطش بمن ظهرت زندقته.. ثم آل الأمر إلى مُلْك رحمة في عهد بني أمية، ومع قصورهم الكبير عن سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جمعوا بين الحسنيين؛ فأشعلوا الحرب ضد الخوارج وضد من خذلوا علياً وقتلوا عثمان رضي الله عنهما.. ومع هذا توسعوا في الفتوح، ثم أنشأتم ( صحوة الموت ) في عهد بني العباس.. ويُسألون أيضاً: من نشر الإسلام، ومن أسقط الإمبراطوريات الظالمة، ومن وسَّع الرقعة بِهُويَّتَي (البلاد العربية الإسلامية)، و (البلاد الإسلامية) أتجدون فيهم واحداً ممن انتحل نحلتكم ؟.. أليست الريادة للشيخين أبي بكر وعمر وقادتهما كسعد والمثنى وخالد بن الوليد رضي الله عنهم الذين تلعنونهم، وتقيمون الاحتفال لمن قتل عمر رضي الله عنه ولعن مَن لعنهم وأخزاه في الدنيا والآخرة، وكتب عليه الذلة والصَّغار؟.
والوجه الرابع: هاتوا نصاً واحداً من القرآن الكريم مفسَّراً بلغة العرب التي نزل بها ينص على أحدٍ غير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين هم القدوة لمن اتبعهم بإحسان، وضمنت الجنة لهم قطعاً؛ فهل يُدانيهم أحد في الفضل ممن جاء بعدهم من الأخيار وليست نحلته نحلتكم؛ فما بالك بدعوى العصمة لمن جاء بعدهم بغير برهان من الله؟.. ثم أخبرونا هل في الدين والعقل أن الله ينسخ خبره الصادق؟!!.
والوجه الخامس: لماذا الإسقاط السافر السافل للنصوص القطعية بلسان العرب المبين كقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح 29)؛ فهل يصح في الشرع والعقل أن الله نسخ الخبر عنهم فجعلهم مرتدين؟.. وما دام محمدٌ رسولَ الله فهل من سبيل إلى تلقي ما جاء به من الوحي المتلوِّ وغير المتلو عن غير طريقهم ؟.. وهل عندكم في مكابرة ذلك إلا الدعاوى العارية، والأكاذيب التي لا خطام لها ولا زمام، ولا يُزكِّيها أسانيد متصلة بالعدول، ولا يُزكِّي مضمونها ما يُفهم من شرع الله باللغة التي نزل بها؟!.. وما لكم أسقطتم قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح 18)؛ فهذا خبر بلسان عربي مبين لا يقبل النسخ عن قوم معروفين بأعيانهم رضي الله عنهم؛ فهل يكون من رضي الله عنه مرتداً؟.. وما لكم أسقطتم قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة 22)؛ فهل رضوان الله ووعده بالجنة لمعدوم؟.. وما لكم أسقطتم النصوص الكثيرة عن مدح الله المؤمنين ووعدهم الجنة ممن كان في نصرته صلى الله عليه وسلم، وهل تعلمون فيهم أحداً من أهل نحلتكم، وهل لهم صفة غير الصُّحبة؟.. وهل في دين الله أي نص شرعي صحيح بلغة عربية مبينة يُلغي فضل القبلة ببكة أول بيت وضع للناس حقَّق الله بها رضى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم يجعل القبلة والفضل لمَشاهِدَ ومعابد في المشرق حدثت بعد إتمام الدين وهي معابد وثنية؟.. ثم ما بال كتبكم وهي بين أيدينا تفسيراً وفقهاً وعقيدة لا تروي عن رسول اللهإلا إضمامة صغيرة بأسانيد مكذوبة؟.
والوجه السادس: ما بالكم أخزاكم الله تَبْعَرون بَعْراً أمام نصوص التاريخ الناصع نصوع الشمس عن خارطة إسلامية معروفة باللمس والمشاهدة لم يُساهم في احتوائها واحد من أهل نحلتكم، ثم تقولون: الدين لم يظهر بعد.. أي سيظهر عند قيام الساعة؛ فلعلكم تعنون المسيح الدجال لعنه الله وأتباعه منكم؟!.. وما لكم بكل صفاقة وجه يتجعَّد قبل الأشدِّ كذَّبتم ربكم جهاراً؛ إذ قال سبحانه مخاطباً المسلمين ( وقادتهم الصحابة رضي الله عنهم وقت التنزيل، وهم تحت إمامة عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة المائدة 3)؛ فقلتم: لم يكمل الدين بعد، ولم تتم النعمة.. وتنتظرون عند قيام الساعة بقيَّة الوحيِ عند صبيٍّ مات، وكذبتم على ربكم بلا برهان من الشرع بلغة العرب؛ فزعمتم أن الوحي انتهى إلى هذا الصبي؟!.
قال أبو عبدالرحمن: وإذْ أسلفتُ التنغيص على عليٍّ رضي الله عنه فإنني ذاكر ههنا أن علياً رضي الله عنه المُشْربَ نورَ النبوة، ذا السوابق، الفقيه، الشجاع: تولى الأمر على وهنٍ في واقع الأمة إلى مذاهب، وادَّعى الظلاميون أنهم أنصاره رضي الله عنه فخذلوه أكثر من مرة، وأحبطوا سياسته الراشدة أكثر من مرة، وهو مُقَدِّم الديانة على السياسة - ولا رأي لمن لا يُطاع -، ومع هذا ظل مجاهداً، ولم يفرح معاوية رضي الله عنه بالأمر في عهده على الرغم مما يعانيه عليٌّ رضي الله عنه من الفرقة والعناد في جيشه بفعل وتضليل الكائدين للإسلام من أهل الكتاب ووثنيِّي الشعوب المغلوبة كالمجوس المحتفلين بمقتل عمر رضي الله عنه وذِكْرى أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، ووقوع غير التابعين بإحسان في شرك التضليل.. وهذا الخذلان للإسلام وأهله مِن قِبَلِكم نتيجةٌ حتميَّة لنحلتكم الظلامية التي قامت لإحداث الشتات بين المسلمين.. اذكروا الفاطميين وأسد أهل الإسلام صلاح الدين رضي الله عنه.. اذكروا استقدام وثنيِّي التتار ورفيقَيْكم ابن العلقمي وعدو الدين الطوسي.. أذكروا هيضة البرتغال ودور الصفويين، واذكروا دورهم مع أهل الكتاب ضد الخلافة الإسلامية.. ومعاوية رضي الله عنه طالب علياً رضي الله عنه بأمر غير مشروع، وهو الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ فكيف يتم لعلي ذلك، ولم يدخل معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم بأهل الشام ومصر بأداء البيعة الواجبة أولاً، ليتَّحد الصف وتقوى الشوكة، ثم بأي شرعٍ تكون المطالبة بالبحث عن الجاني للاقتصاص منه مقدمةً على البيعة، وقد بايع أهل الحل والعقد رضي الله عنهم ؟!.. فما كان في هذه الفتن من معصية غير مخرجة من المِلَّة ليست عن اجتهاد صحيح، أو دعوى اجتهاد: فهو موزون بميزانين:
الميزان الأول: أن المحاربين لعلي رضي الله عنهم: إما فئة مسلمة ولكنها باغية؛ فيجب قتالها حتى تفيء.. وإما فئة مُضَلَّل بها على بدعة يجب محاجَّتها ثم قتالها حتى تفيء، وهذا ما فعله علي رضي الله عنه، وإما مدَّعون الإسلام فقبلهم علي رضي الله عنه تاركاً سرائرهم إلى الله مع كثرة تعنيفه لهم في خُطبه؛ لما يراه من انشقاقهم وعنادهم وعصيانهم، وهو رضي الله عنه بسبيل استقصاء الكائدين للملة من الكتابيين والوثنيين، ولم يمهله القدر رضي الله عنه وإن كان بطش ببعضهم، والله المستعان.