«هل توقعت ما حصل لي هذا اليوم؟.. كلا بالتأكيد! فمن يتوقع أن يلتقي في طريقه عفريتاً!».
داعب نسيم الصباح خصلات شعره الكستنائية الناعمة, لكن وجه (أرتي) ظل عابساً، وظل حاجباه معقودَيْن فوق عينين بلون العسل الصافي بتفكير مهموم «كيف يمكن لولد في الخامسة عشرة أن ينقذ عائلته من هذه المشكلة؟» فكر بذلك وهو يمسح باطن كفيه ببنطاله الجينز القديم, ثم خطى ببطء مبتعداً عن بوابة منزله الصغير المتهالك.. ليبدأ يوماً جديداً في البحث عما يسد به رمق عائلته.. لكن هذه المرة الأمر مختلف! هذه المرة لم يعد معه نقود، ولم يعد معه أي شيء ليبيعه؛ فما بقي من ممتلكات العائلة حفنة أشياء لا قيمة لها.
أخذ يسير في الطريق المؤدي لسوق البلدة وهو خاوي اليدين.. يتمنى لو كان أكبر سناً فيستطيع الحصول على عمل يساعد به أمه العليلة وأخته الصغيرة بعد وفاة والده, وبينما هو غارق في أفكاره مر على بستان صغير بجانب الطريق مليء بأزهار دوار الشمس المشرقة، توقف (أرتي) أمام الأزهار متأملاً جمالها.
أكمل (أرتي) طريقه تتقاذفه الأفكار والهواجس حتى وصل لطريق ضيق، وبدا على جانبيه مدخل لغابة مظلمة كثيفة الأشجار ترحب به، لم ينتبه إلى أين كانت قدماه تقودانه، لكن بعد برهة تناهى لسمعه صوت أنين ضعيف.. فوقف متفاجئاً وحاول أن يحدد مصدر ذلك الصوت، وأخذ يدور في المنطقة القريبة منه وعندما لم يجد أحدا بينما الأنين ما زال مستمراً، نادى بأعلى صوته:
- من هناك؟ لكن لم يجبه سوى ذلك الأنين الذي بدأ يتضاعف شيئاً فشيئاً، فأردف:- أين أنت؟
عندها اختفى صوت الأنين، ثم سمع صوتاً لرجل طاعن في السن غلفه الوهن ينادي من خلف صخرة مختبئة وراء العشب الكثيف:
- أعطني جرعة ماء.. أعطِكَ السحر الذهبي!
ازداد ذهول (أرتي) لكنه تقدم ببطء ليقترب من تلك الصخرة ومن بين تلك الأعشاب الشائكة عثر على كتلة ملقاة على الأرض ملتفة بما بدا.
بتردد تحسس (أرتي) الجرة في جيبه.. يبدو الرجل منهكاً ومحتاجاً للماء أكثر منه، لكنه سيحتاج للماء أثناء سيره الطويل, وليس معه نقود.. والطريق خالٍ حتى من المستنقعات «كلا، لا يمكنني» وهمّ عائداً أدراجه تاركاً الرجل العجوز الذي أستوقفه بهلع:
- توقف يا بني.. أرجوك.. ألا تريد السحر الذهبي!
التفت (أرتي) بتردد نحو العجوز وسأل:- وما هو السحر الذهبي؟
حاول الرجل الجلوس بصعوبة ليظهر وجهه الكالح ولحيته الفضية ثم رد بلهجة غامضة:
- إنه أغلى من الذهب.. أجمل من الماس، وحالما تراه ستعرف ما تفعل به!
نظر إليه (أرتي) بشك ورفع حاجبه الأيمن باستغراب وقال:- إذا كان هذا السحر موجوداً.. فلم لا يبدو أنك استفدت منه؟
رد العجوز بحزن وضعف:
- كما ترى أنا مسن.. انقطعت بي الطريق بلا طعام أو شراب وأوشك على الموت هنا عطشاً، لن يستفيد منه المسنون أمثالي!
سكت قليلاً ليلتقط أنفاسه ثم أخذ يعبث داخل الأسمال التي يرتديها وبدا ككيس جلدي قذر معلق وسط خاصرته بينما استطرد:- انظر هنا..
وأخرج لفافة ورقيه بنية اللون بحجم قلم، ثم رفع طرف اللفافة ليظهر منها جزء من شيء يتوهج بلون ذهبي، وأكمل:
- هذا هو.. دعني أروي عطشي وسأعطيك إياه.
انبهر (أرتي) بذلك الشيء المتوهج واشتعل فضوله، فلم يرَ شيئاً عجيباً وغامضاً كهذا من قبل، عندها قرر أن يعطي الرجل العجوز الجرة.
ويأخذ هو ذلك الشيء.. السحر الذهبي.
أخرج الجرة وقدمها للعجوز الذي ارتشف الماء بنهم ورمى إليه باللفافة.. حدق (أرتي) باللفافة خائفاً وبتأن قام بفكها، فظهر ما كان مختبئاً داخلها، إنها فرشاة رسم، مقبضها الرفيع بلون الذهب اللامع, لقد كانت أجمل فرشاة رآها (أرتي) في حياته، حتى زميله في المدرسة (توم) الثري لا يملك واحدة مثلها بين أدواته الفاخرة، فصاح بدهشة:
- إنها غاية في الجمال.
تعالت ضحكات (أرتي) وهو يلوح في الهواء بفرشاته بشكل عشوائي وبدا كمن يرسم على لوحة كبيره شفافة. بقي (أرتي) محدقا في السماء لبرهة غير مصدق.. وعندما انتبه ركض بسرعة شديدة مبتعداً قبل عودة العفريت، وجسده يرتعش وخفقات قلبه يستطيع سماعها العالم بأسره، ليس من الخوف.. بل هي السعادة.. السعادة المطلقة.
في ذلك المنزل الصغير الذي لم يعد لحاله السابق أبداً، لم ينسَ ساكنوه ما حصل في ذلك اليوم.. فلم تنسَ الأم وابنتها الصغيرة تلك المفاجأة السعيدة، عندما فتحا الباب ليجدا (أرتي) حاملاً زهرة دوار شمس كبيرة في داخلها عسل ذهبي صافٍ وقالب شوكولاته لذيذ.. منذ ذلك اليوم كل شيء تغير، فلم يعودوا محتاجين لشيء وأخذوا على عاتقهم مساعدة كل محتاج ذاق من الألم والفاقة ما ذاقوه لسنوات عديدة.