المصادفات الزمنية وحدها.. هي التي صنعت هذه «المفارقة» أو «المقابلة» بيننا.. وبين «البرازيل»، أكبر دول أمريكا اللاتينية، وخامس أكبر دولة في العالم.. مساحة، وثامن أقوى دول العالم اقتصاداً.بإنتاجها الزراعي الصناعي الوفير، و«فولاذها» وحديدها الأمازوني الشهير، و«كاكاوها» و«بنها» الأشهر، والفريد مذاقاً..
الذي قال عنه أساطين صناعة فناجين «القهوة التركي» الذائعة الصيت في عالمنا العربي، بأن أفضل فنجان قهوة تركي.. هو ذلك الذي يتكون نصفه من البن «البرازيلي».. وربعه من البن «الحبشي».. وربعه الآخر من البن «اليمني»، ومعذرة لهذه الإطالة، التي تضطرني إليها ظروف الحديث عن هذه «المفارقة» أو «المقابلة» مع.. «البرازيل».
ففي الوقت الذي كانت فيه هذه (البرازيل) الكبيرة والضخمة بملايين ناخبيها البالغ عددهم مائة وسبعة وثلاثين مليوناً.. يتوجهون -يوم الأحد الماضي- إلى صناديق الاقتراع لاختيار أحد مرشحي الرئاسة البرازيلية: السيد «خوسيه سيرا» عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي.. أو «السيدة ديلما روسيف» عن حزب العمال، فيختارون وبما يشبه الإجماع السيدة روسيف (!!).. كان هناك عتب في الصحافة موجه لنائبة وزير التربية والتعليم (لتعليم البنات) الأستاذة نورة الفايز.. حول تصريحها الذي أدلت به لوفد هندي كان في زيارة المملكة، والذي أوضحت فيه الأسباب التي جعلتها تؤجل -أو تستبعد- تطبيق برنامج «التربية البدنية» للطالبات في المدارس.. لأن «المجتمع» لا يريد ذلك..!.
لقد كان عتب العاتبات على نائبة الوزير.. وهن الأستاذة الدكتورة عزيزة المانع في (عكاظ)، والأستاذة فاطمة العتيبي في (الجزيرة) -وهما من قرأت لهن ما كتبنه-.. على حق، فالحاجة ل «إدخال» برامج التربية البدنية لمدارس البنات.. كانت محل جدل طويل بين متشددين لا يرون تطبيقها في «المنهج» وبين الحصص الدراسية لعلة خافية على «الناس» جميعاً.. وبين معتدلين وتربويين متخصصين يرون ضرورة تطبيقها لأسباب ذهنية ونفسيية واجتماعية إلى جانب أسبابها الصحية التي لا خلاف عليها، وليس فقط إحقاقاً للمساواة بين الطلبة والطالبات.. ولكن اعترافاً بأن منطق (العقل السليم في الجسم السليم) لا يخص الذكور وحدهم دون الإناث.. والطلبة دون الطالبات، ثم انتهى الجدل.. إلى إقرار البرنامج والاعتراف بضرورته وأهميته وجدواه على هؤلاء الفتيات اللاتي أخذت تتفشى بينهن ظاهرة سمنة مقلقة.. مع ما تؤدي إليه -في العادة- من قصور في إفراز هرمون (الأنسولين) يوصلهن -في النتيجة- إلى الإصابة المبكرة بمرض «السكري»، والذي عادة ما ينتهي ب «المصاب» به.. إلى درجات من الإعاقة، تتطور بامتداد سنوات حياته.. وربما تنتهي به إلى الموت المبكر..!!.
إن أصحاب هذا الرأي الممانع، الذين أسبغت عليهم نائبة الوزير صفة «المجتمع».. وأن رأيهم يمثل رأي المجتمع.. حتى وإن كانوا ممن يرون تنقيب الفتيات داخل أسوار مدارسهن، فإن الحجة لا تقف إلى جانب مما نعتهم.. فهؤلاء الفتيات سيؤدين تدريباتهن الرياضية داخل أسوار مدارسهن.. وليس في «إستاد الملك فهد» أو «إستاد الأمير عبدالله الفيصل» أو أمام عدسات المصورين وكاميرات التلفزيون، على أن الأهم من ذلك.. هو أن المدرسة أو المدارس -في العادة- هي التي تقود المجتمع ب «العلم» و»المعرفة»، وهي التي تأخذ بيده إلى طريق التقدم والفلاح.. وليس العكس، وهي تفعل ذلك عادة وفي أوطان العالم قاطبة عبر المختصين من ذوي الشأن.. من التربويين والمتخصصين في العلوم والآداب والتاريخ واللغات والفنون من أساتذة التربية ورجالاتها وخبرائها، وليس عن طريق «المجتمع».. الذي تتفاوت قدراته وإمكاناته بتفاوت حجم علمه ومعرفته من بلد لآخر ومن وطن لآخر، فإذا أضفنا -في بلادنا- إلى ذلك نسبة الأمية الأبجدية التي يعاني منها المجتمع بصفة عامة.. إلى جانب الأمية المعرفية التي تجعله يقرأ سطراً ويتجاوز عن آخر عمداً أو سهواً، فإن ذلك يقصيه عن أن يكون مرشداً ل «التعليم».. فضلاً عن أن يكون قائداً أو موجهاً له.
إن اعتقاداً.. يأخذني بعيداً إلى الوراء، بأن هؤلاء الممانعين اليوم لإدخال «التربية البدنية» رغم ضرورتها النفسية والبدنية غير المختلف حولها لمدارس البنات.. هم من أولئك الذين مانعوا -في الثلاثينات الميلادية من القرن الماضي- الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في إدخال «التليفون» إلى قلب نجد، فكان أن أغراهم -بذكائه- ب «الاستماع» إلى آيات من الذكر الحكيم وهي تأتيهم عبر أسلاك «التليفون» وسماعته، فكان ترحيبهم به وتهليلهم له، أو الذين مانعوا الملك فيصل -يرحمه الله- في الستينات من إقامة مدارس للبنات في منطقة القصيم.. فكان قراره بفتحها وحراساتها، ومن يرغب من أولياء الأمور في إلحاق بناته بهن فليتفضل، ومن لا يرغب فهو حر في «ولايته».. فكان نجاح المدارس هو «الكاسر» لشوكة الممانعة، والدافع لإحضار بناتهن على مضض بداية، وعلى ركض وتوسلات نهاية.. بحثاً عن مقاعد لهن في مدارس البنات، لتتحول ممانعتهم بعد تخرج بناتهن وتخصصهن.. إلى سعي محموم لإلحاقهن ب «وظائف» تعليم البنات، أو كأولئك الذين لم يتمكنوا في مطلع هذا القرن (2003م) من الممانعة في صدور قرار «دمج تعليم البنات في الوزارة» الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بصورة فاجأت الجميع -إبان ولايته للعهد ونيابته عن الملك فهد في كثير من تلك الأوقات-، فكان أن تحولت «ممانعتهم» التي غيبتها مفاجأة الإعلان عن القرار مصحوبة بتعيين نائب للوزير لشئون تعليم البنات هو التربوي الكبير الأستاذ الدكتور خضر القرشي.. إلى «خطب» في الجوامع ورسائل على شبكة الإنترنيت وهي تنعي حالة التغريب والإفساد والاختلاط التي سينتهي إليها تعليم البنات، ولكن قرار خادم الحرمين الشريفين.. مضى ولم يتغير ولم يتبدل وتُرك ليدافع عن نفسه في أن يكون للبنين والبنات تعليماً واحداً.. ومنهجاً واحداً، لأنهما معاً (البنين والبنات) أبناء وطن واحد.. هو هذا الوطن العربي المسلم المتمسك بعقيدته وشريعته السمحاء التي خص الله بها أرضه دون العالمين.. ولكن بإشراف وإدارة الرجال للبنين.. والنساء للبنات، فكان قرار خادم الحرمين الشريفين اللاحق.. بتعيين الأستاذة نورة الفايز لتكون في منصبها الحالي (نائبة الوزير لتعليم البنات).. لتتأكد نصاعة التوجه وسلامته، ويُغلق الطريق أمام الممانعين والنائحين على الماضي.
وهكذا.. ظلت هذه الممانعات تفرد جناحها بين الحين والآخر، ومع كل خطوة تجديد يعتزمها الوطن، وهي ترفع أصواتها الوجلة من المستقبل ومخاطره.. دون أن تتأمل بقدر كاف من الإنصاف والموضوعية ما تحمله ممانعاتها من معاني النكوص والتراجع والرضا ب»موقع» في مؤخرة الصفوف بين دول العالم وشعوبه.
فماذا كانت حالنا.. لو أننا أخذنا بكل تلك «الممانعات» الماضيات، حيث لا هواتف ولا سيارات، ولا تلفزيونات ولا مدارس للبنات و.. و.. إلى آخر تلك الممانعات التي لا يلوح لها آخر، والتي كانت ستجعل من وطننا في النهاية.. أعجوبة بين الأوطان يستحق الفرجة عليه، والرثاء له..؟!.
ولذلك، فقد كان حرياً بالأستاذة الفايز وهي التربوية المؤهلة.. أن تستمع إلى تلك الممانعات كما فعلت، وأن تمضي في ذات الوقت قدماً في إدخال برامج التربية البدنية ل «مدارس البنات».. أخذاً بما انتهت إليه دراسات الوزارة وتقارير خبرائها في هذا الصدد، على أن تترك لأولياء أمور البنات حق انضمامهن إليها أو الابتعاد عنها.. دون أن يؤثر ذلك على نتائجهن الدراسية آخر العام، وسترى الوزارة ومدارسها.. كم هي أعداد الفتيات اللواتي سينخرطن في حصص «التربية البدنية».. راجياً أن لا تفاجأ نائبة الوزير عندما ترى أن في مقدمة صفوف هؤلاء الفتيات بنات أولئك الممانعين..!! ف»الحقائق» أقوى من «الأوهام»، ونتائج الأبحاث والدراسات أقدر على رصد الواقع من خيالات المتخيلين الخائفين.. على أن الجميع يتفق حتماً على أنه ليس من بين أهداف مدارس البنات تخريج دفعات من «الدببة» أو «أشجار الجميز» كما يقول الأشقاء المصريون، لترتفع بهن نسبة «العنوسة» عما هي عليه من صورة مرعبة!!.
وبعد..؟
أليست مفارقة.. أن يركض ستة وسبعون مليون برازيلي لانتخاب «سيدة» لرئاسة جمهوريتهم.. بينما نتعاتب ونتجادل -في ذات الوقت- على حق فتياتنا في «التربية البدنية» بين الجواز وعدمه..؟!.