لو يتفكّرون في موسم الحج، والأيام التي تسبقه بأسابيع، وربما تمتد للأشهر، ومكة تستوعب مئات الألوف، ولا تضيق بتوفير مأكلهم, ومغسلهم، ومشربهم، ومنامهم، وإنْ ضاقت بهم بعض المنافذ، أو اكتظت بهم بعض الطرق، لكن بلاداً على وجه الأرض يجد فيها الإنسان القاصد ربه، في وقت واحد، بغرض واحد, بكلِّ هذه الأنفاس، والأرواح, والقلوب، والعقول, تجتمع على هدف، وتتجه لمقصد واحد، وتجد صدوراً منفتحة، وأنظمة ميسّرة، وخدمات على مدار اليوم, والأيام، في ليلٍ لا تنطفئ فيه الأنوار, وفي نهار لا تقطب فيه الوجوه، وكلٌ يجتهد ما استطاع، وفوق ما يستطيع، في كلِّ مؤسسة ودائرة, بدءاً بمن يقفون في انتظار الحاج بشربة زمزم، وعربة حمل، وأداء تطويف وسعي، ورجل أمن يمهِّد للحاج سبله، ويحتوي حاجاته، ويؤتمن على شؤونه وأمانه، وطبيب يقتنص نداء واجب، ورجل خلف مقود عربة إسعاف, وإطفاء، وعيون في رؤوس تنبض بيقظتها، تتلقّف وجهاً خائفاً فترشده، وصوتاً تائهاً فتدلّه,...
لو يتفكّرون في أيّ القدرات النفسية, التي يتمتع بها ساكنو، ومسؤولو، ورعاة الحرمين، لَمَا توانوا لحظة عن إدراك الفارق بين إدارة الحشود هنا، وبين إدارتها في ملاعب الكرة، أو دور السينما، والمسارح، أو تجمُّعات الانتخابات، أو التحلُّق لاختيار ملكات الجمال، والفوز بمكاسب مسابقات اليانصيب، أو في أيّ حشود تفاوتت أهدافها ومراميها وأسبابه، فأيٌ أجلُّ..؟ وأيُّ أبقى..؟ وأيٌ أسمى..؟ بل أيٌّ أقدَر.., وأقوى، وأكثر نجاحاً على صعيديْ الظاهر والخافي، البشري والربّاني..؟
ألاَ فليبارك الله حجّ من يحج، في كنف من يتعهّد واجب ربه في خلقه.. حين يحتشدون، في منظر وموقف مصغّر ليوم العرض.. ذلك اليوم الذي يفرُّ المرء من كلِّ من يعرف.., ويأتي الرحمن فرداً..
حجاً مباركاً، وحشداً مرحوماً.. ولكلٍ أجره الذي ينتظره في ذلك المقام.