1- نقيض العقل هو الجنون.. وإذا كان هناك عقل جماعي وآخر فردي.. فهناك أيضاً جنون جماعي وآخر فردي.. وهناك فروق بين العقل أو الجنون الفردي والجماعي وبينهما أمور متشابهات.
2- في الجنون الجماعي يبدو كل فرد في المجتمع عاقلاً يعرف كيف يدير شؤون حياته.. و أنه في تمام وعيه وإدراكه في تدبر حاجاته.. لكنه يعيش تحت هاجس أن المجتمع ككل غائب عن الوعي.. عاجز عن فهم واقعه. غير قادر على إدارة شؤون حياته.. فاقد للإدراك لما يتجه إليه مستقبله.. ودليله على ذلك ما يراه من قبول المجتمع للسحر والإيمان بالخرافات والأساطير.. وتغييب صوت العقل.. وتغليب هستيريا الانفعال.. والمزايدة في المغامرات.. والاندفاع المتهور خلف كل متهور.. حتى لو كان في ذلك خراب الديار وانهيار المجتمع.
3- في المجتمعات المجنونة يخلق كل مواطن واقعاً يناسبه.. يولد لديه إحساساً بالانتماء دون أن ينتمي إلى أحد.. وتجعله محصناً أمام واقع مجتمعه المحبط.. وتمنحه الاستقلالية والراحة النفسية التي توحي له أنه كفرد ليس مهزوماً أو جاهلاً أو متخلفاً كمجتمعه.. ويرى أنه لا ينطبق عليه ما ينطبق على مجتمعه من صفات.. كل ذلك حتى يجنب نفسه النظرة الدونية التي يحسها هو تجاه مجتمعه.
4- أكبر مشكلة يواجهها الفرد في المجتمع المصاب بالجنون أنه ينقاد مع الجميع فلا يفكر بل يتكلم ويردد ويبرر ويؤلب ويشتكي ويجلد ذاته ومجتمعه.. ويبرع في تمجيد ماضي مجتمعه مقابل ذم حاضره ورفضه له.. فهو واقع تحت تأثير حقائق على الأرض لا مجال لتجاوزها سوى تأليب المجتمع وجعله يعيش دائماً تحت هاجس الاستهداف والمؤامرة.. هنا لا يملك ذلك الفرد سوى السير مع المجتمع.. فلو انفرد عن الجموع إما أن يداس أو ينفرد به العدو فيأكله بمفرده.. لذلك فالموت مع الجماعة رحمة.
5- الفرد في المجتمع المجنون يعيش غالباً في وسط صاخب منفعل متوتر.. أو يعيش منسحباً من الدنيا وما فيها.. ومشكلته أنه يعيش وعائلته حالة من الحاجة الدائمة التي تصل إلى حد العوز للغذاء والدواء والتعليم والسكن والماء والكهرباء والصرف الصحي والمواصلات والزواج ووو..إلخ. لذلك وحتى لايجن مثل مجتمعه لابد له أن يغيب عقله فلا يقرأ الواقع ولا يحاكم أوضاعه ولا يفكر في الحلول.. بل إنه لا يعترف أصلاً بأنه في مشكلة ويحتاج إلى علاج بل يتخندق للدفاع عن هذا المجتمع المجنون ويبرر له جنونه.. ومن ثم ينشغل بجو المعركة عن المعركة ذاتها.. فهو لا يحاور لأنه يرى في الحوار نوعاً وضعفاً.
6- المشكلة الأخرى التي يواجهها الفرد في المجتمع المجنون أنه لايملك من أدوات الحوار سوى الكلام.. وكلامه يغلب عليه الصوت العالي الساخط العصبي الذي لا يحمل منطقاً بل مغالطات وتطرفاً في الخصومة تفقده القدرة على تصور الأمور وبالتالي يختل حكمه عليها.. هنا تخفق اللغة فيتحول الكلام إلى نوع من الخرس.