عزلنا الفقر والصحراء ونسيان الجوار لنا لمئات السنين عن التواصل البشري مع الآخرين. عزلنا كل هذا أيضاً عن الاستعداد الكافي لما هو أكثر تعقيداً من متطلبات حياة العزلة. ثم وبعد العزلة الطويلة هبط علينا هكذا ودون سابق إنذار وخلال بضع عشرات من السنين كم هائل من كل شيء، من النقود والبضائع والآلات ومن البشر المختلفين عنا في الكثير من الأمور. لم نكن على تأهيل واستعداد معرفي وذهني للتعامل مع ذلك كله. لكن هذه الهوابط لم تكن أصعب وأعقد ما هبط علينا، بل كانت تلك الثقافات والمفاهيم والعادات الجديدة. لم تكن هذه الواردات الجديدة كلها ثمار شجرة واحدة، بل ثمار مختلفة ومتناقضة الأشكال والطعوم والروائح لأشجار حضارية مختلفة ومتناقضة في المنابت والمشارب والألوان.
لهذا السبب، أي لأننا أخذنا على حين غرّة بذلك كله نحاول التمسك بحبال الماضي، على الأقل شكلياً، بينما حواسنا الخمس تتعامل مع المستجدات بانبهار وفوضوية ونزق الطفل الذي حصل على لعبة إلكترونية بعدما كان معتاداً على اللعب بالرمل والحصى وكرات القماش الملفوف وكعاب التيوس والخراف. كلما قلّت ثقافة الفرد منا وتواضعت مداركه وخبراته كلما كان أكثر انبهاراً وانغماساً في العبث بالمستجدات وكلما كان أيضاً (ويا للمفارقة) أكثر خوفاً وقلقاً منها وأقرب إلى احتمال الانقلاب عليها بشكل جذري قد يصل إلى ارتهان عقله للتسييس والبرمجة لتدمير نفسه والآخرين بعد تكفيرهم وعزل نفسه عنهم.
باختصار ما هي المحصلة النهائية لهذا الكلام؟ المحصلة هي على أننا نعيش وسط أحدث الكماليات وأغلاها أسعاراً ولكننا لا نستعمل منها سوى السلبيات مع القليل جداً من إيجابياتها. هذه واحدة، والأخرى هي أننا نحتاج إلى تربية وتثقيف اجتماعي عميق ومبرمج لكي نتعامل مع ما هبط علينا من ثروات وبضائع وبشر وعادات ومفاهيم بطريقة عاقلة ومدروسة. لكن كيف يتم ذلك كله، وهل من أمثلة لتيسير الفهم؟ نعم.. أما بخصوص تعاملنا مع المستجدات بطريقة سلبية فالأمثلة لا حصر لها وهذه بعضها:
لدينا أغلى وأسرع السيارات ولكن لدينا أيضاً أقبح أنواع القيادة وأسوأ أنواع التعامل المروري وأشد الحوادث المرورية فظاعة وشناعة.
لدينا الهاتف النقَّال والبلاك بيري من جميع الماركات العالمية ولكن لدينا أيضاً أحقر أنواع التعدي اللفظي والجنسي والمعنوي والمالي باستخدام هذه الوسائل، كما أن لدينا أكبر هدر مالي على الثرثرة وتضييع الوقت في تبادل التفاهات الكلامية.
لدينا أكبر نسبة من الهاربين الموسميين إلى الخارج كلما سنحت الفرصة (نسميها سياحة خارجية) ولكننا نذهب إلى أتفه الأماكن وأكثرها بيعاً للتفاهات الاستهلاكية والاستعراضية والجنسية. الكل يستغفلنا ويسلبنا أموالنا هناك ويضحك من بلاهتنا.
ولدينا أيضاً أكبر عدد من المقررات الدراسية وأثقلها على الجسم والفهم ولكن لدينا أيضاً أقل المناهج الدراسية خدمة لخطط التنمية وللإعداد العقلي في التعامل مع ضروريات ومستجدات الحضارة البشرية.
هل هناك أمثلة أخرى؟ نعم وبالكوم وأكثر من عدد النجوم.
وأما حاجتنا إلى إعادة تربية وتثقيف اجتماعي عميق ومبرمج فهذه لا يختلف عليها عاقلان، لكن هذه المسؤولية مسؤولية من؟ إنها مسؤولية من يستطيع تمويل البرامج واختيار وتكليف البشر المناسبين للاضطلاع بها مع الحرص على أن تكون مخرجاتها أفضل من مخرجات التعليم ولقاءات الحوار الوطني. أقترح أن تبدأ برامج التربية والتثقيف الاجتماعي للتعامل الحضاري في مراحل الدراسة الابتدائية كرديف ومكمل للتربية الوطنية، وأن تخصص لها محطة فضائية لأن مشاكلنا الحديثة كبرت على عقلياتنا القديمة.